آخر التحديثاتأبرز العناوينعربيات

هل ننتظر من قطر مقاربة جديدة ومستحقَّة لسوريا؟

الاستماع للمقال صوتياً

بقلم نشمي عربي* 

أن تأتِ من بلد الأمويين، فهذا سبب كافٍ لتكون عروبياً، ولم يكن غالب السوريين يوماً غير ذلك، وعليه فهم (رغم تعدديتهم الإثنية الغنية) يشدهم هذا الرابط الإنساني الذي يتجلى أكثر مايكون في لغتهم الجذلى، وعليه فهم يرون العالم العربي بالمطلق كله بلدهم، لايغير في ذلك أية شوفينيات طارئة على الأخلاق العربيه ولاتعبر إلا عن أصحابها فقط، ولا ينحاز غالب السوريين لخصوصيةٍ شامية أو مصرية أو خليجية أو شمال أفريقية، ولا لغيرها، بل لرابط العروبة الذي يتجاوز كل الإعتبارات الدينية والمذهبية، وحتى الإثنية، ولايعترف بأية فوارق تفرضها المقدرات أو الإمكانات والثروات بكافة أشكالها، مادية أو بشرية، وكانوا وما انفكوا يعتبرون أي إنجاز عربي في أي مدينة عربية مدعاة فخر واعتزاز لهم ولكل عربي، وماقام به الأشقاء القطريون في تحضيراتهم المتميزه لاستضافة بطولة كأس العالم كان لافتاً ويستحق كل إعجاب.

كان لافتاً جداً أيضاً إصرار الإخوة القطريين على أن يكون استقبالهم لضيوفهم بعاداتهم هم وبما يتناسب مع طبيعة مجتمعهم، رافضين في ذلك أية شعارات أو ممارسات يعتقدون أنها لا تنسجم مع خصوصية المجتمع القطري، ولم يقبلوا في ذلك أية تدخلات أو اعتبارات لها حساسياتها المفرطة لدى مجتمعاتٍ أخرى، رغم أن الحدث المستضاف دولي بامتياز ومن الطبيعي أنه يجمع مشاركين و مشجعين من مجتمعات مختلفه في قيمها واعتباراتها.

الأمر الذي كان واضحاً جداً ومنذ لحظة اختيار قطر لاستضافة هذه البطولة هو أن هذا الاختيار بحد ذاته كاد يتجاوز في أهميته البطولة نفسها، بدليل الجدل الحاد الذي أثاره على مستويات عديده ولا يزال, الأمر الذي لعله أغبط الإخوة القطريين أكثر من حقيقة استضافتهم للبطولة نفسها.

كان طبيعياً ومتوقعاً أن اختيار قطر لاستضافة بطوله بهذه الأهمية سيستدعي الكثير من الروايات والسرديات التي تبدأ ولاتنتهي، وهي وإن كانت بالنهايه تعبر عن مواقف أصحابها فقط، إلا أن لها دلالاتها المهمة بغض النظر عن كونها مبررة أو غير ذلك، محقه أو متجنيِّه، أو أن تكون في أحيان كثيره مبالغاً بها، سلباً أو إيجاباً، وحسب قناعات الراوي أو المتلقي.

عندما تتداخل بعض هذه السرديات بالشأن السوري فمن حقنا كسوريين وعرب التوقف عندها قليلاً، خاصةً عندما يكون بعض رواتها ومردديها من السوريين أنفسهم.

لعلها حالة الإحباط الشديد من العالم أجمع الذي يقف متفرجاً على المأساة السورية والتي يشعر بها السوريون جميعاً هي التي تقف وراء بعض المقولات التي يرددها البعض حول الكلفة العالية جداً لهذه الاستضافة في الوقت الذي تعاني فيه أعداد غفيره منهم ظروف لجوء وتهجير وتشرد قاسية وظالمة ومجحفة، والرد الطبيعي على هذه المقولات هو أن مسؤولية أي دولة أو حكومة أو نظام هي بالدرجة الأولى اتجاه شعبها وبلدها في كل مايتعلق برفع سوية حياته ورفاهيته وسمعته الدولية، وهذا بالضبط مافعله الأشقاء القطريون، والأمر المهم الآخر الذي لايمكن نكرانه إطلاقاً عليهم هو أنهم كانوا للأمانه دوماً سباقين في مبادراتهم الإنسانية والإغاثية للاجئين السوريون في ظروف زمان ومكان عديدة شهدت ولازالت تشهد مأساتهم المروعة، ولم يقصروا أبداً في تقديم مساعدات وإغاثات ستبقى ديناً في رقاب السوريين لا يمكن نسيانه أو تناسيه، وهم في مبادراتهم هذه إنما يعبرون عن نفس قومي وعروبي أصيل لا يمكن نكرانه على الإخوة القطريين في حال من الأحوال، ولكن الأمانه والحقيقة تقتضي أيضاً الإعتراف بأن أشقاءنا القطريين لم يبادروا للبناء على هذا الإرث الإغاثي و الإنساني الذي كان من الممكن جداً أن يتيح لهم فرصة الإنفتاح الحقيقي على كافة شرائح الشعب السوري للمساهمة في حل مستدام ينهي مأساة السوريين مرة وللأبد، وبقيت هذه المساعدات والإغاثات (المشكورة حتماً) في إطار انفتاح القيادة القَطَرِية على شريحة واحدة فقط من الطيف السياسي السوري المعارض، ليس سراً أبداً أنها تمثلت لديهم دوماً في جماعات (الإسلام السياسي) المتعددة والتي ربما كان (الإخوان المسلمون) هم الطرف الأكثر اعتدالاً فيها، (إذا ما قورنت بجماعات الإسلام السياسي الراديكالي الأخرى التي تم استقدامها للأراضي السورية)، وكانت دوماً جزءاً من المشكلة أكثر منها جزءاً من الحل.

المؤسف في الأمر أن سوريين آخرين وفي محاولات ردٍ على هذه السردية، جاؤوا بسرديةٍ أخرى أشد ظلماً وتجنياً بحق السوريين أنفسهم هذه المرة، لتقول بأنه ليس ذنب الإخوة في قطر أن حكامهم وضعوا كل إمكانياتهم لبناء بلدهم ورفاهية شعبهم في الوقت الذي قام فيه (السوريون) بتدمير بلدهم!

أمَّا أن الإخوة في قطر قد وضعوا كل الإمكانيات والخيرات التي حباهم الله بها لبناء بلدهم ورفاهية شعبهم فهذا أمرٌ يثلج صدر كل سوري وكل عربي، و هو في النهاية أمر متروك للقطريين ليحكموا عليه، ولكن السوريين قطعاً لم يدمروا بلدهم، ولا كانوا بقادرين على ذلك، حتى ولو أرادوا، فقد كانوا جميعاً الحلقة الأضعف في صراعٍ مرير بين نظامٍ ضحى بالبلد مقابل السلطة (هو اليوم أقرب لخسارة الإثنين معاً) وتدخلات إقليمية شرسة و معقدة كانت آلام السوريين كلهم موالين ومعارضين آخر هموم القائمين عليها وفي أدنى درجات أولوياتهم، إلى أن تحولت سورية كلها، نظاماً وشعباً ومعارضات، إلى ماوصفه أحد أهم المسؤولين القطريين السابقين ب (صِيدَهْ) … والأدهى أنها (فْلِتَتْ) حسب وصف المسؤول نفسه …

الصحيح أيضاً هو أن السوريين شاركوا دوماً إخوة وأشقاء لهم في بناء بلدانهم، وفي نهضتها، وتحررها الوطني، لامِنَّةَ لهم في ذلك، فقد رعتهم تلك البلدان وأحسنت وفادتهم، إضافةً إلى أن السوريين كانوا دوماً (على اختلاف إثنياتهم) عروبيين بالفطره وشعورهم الوطني كان دوماً متصالحاً مع شعورهم القومي.

قطر بكل تأكيد ليست الدولة الوحيدة التي تدخلت في الشأن السوري، وربما يكون إحصاء الدول التي لم تتدخل فيه أمراً أسهل كثيراً من إحصاء من تدخلوا، وكان طبيعياً جداً أن كل الدول المنخرطة في المشهد السوري المعقد لها أجنداتها الخاصة بها، ومصالحها التي تدافع عنها، وربما تخوفاتها من ارتدادات الحدث السوري المزلزِل عليها، لا أدرِ حقيقةً تحت أيٍّ من هذه العناوين كان التدخل القطري، الذي كان لافتاً فيه أنه أتى بعد شهر عسل طويل وحميمي بين بيتي الحكم في الدوحه ودمشق، والذي كان حميمياً لدرجة أن الطائرة الخاصه الموضوعه في تصرف الرئاسة السورية كانت مملوكة لقطر ومسجلة دولياً باسمها وتحمل شارتها الوطنية (تم استرجاعها فيما بعد).

لم يكن مستغرباً أبداً أن كل الدول المنخرطة في المشهد السوري المعقد ستبحث عن روافع لها بين السوريين، وأن تدعم وتموِّل معارضات سورية أقرب لفكرها ونهجها، وقطر في ذلك ليست استثناءً، لكن الإستثناء كان يكمن في أن الدعم القطري كان بإصرار شديد مقتصراً فقط على جماعات الإسلام السياسي عموماً والإخوان المسلمين خصوصاً، و بشكل حصري.

كان طبيعياً أيضاً أن المعارضات السورية ستبحث لها عن داعمين وممولين يتبنون نهجها وخطها الفكري والسياسي، وجماعات الإسلام السياسي عموماً و الإخوان المسلمين خصوصاً لم يكونوا في ذلك استثناءً، الإستثناء كان في أن هذه الجماعات (مستندةً إلى دعم مالي وإعلامي قطري مخيف) كانت مصِرَّه دوماً على تهميش وعزل كافة الإتجاهات المعارضة الأخرى، وإخراجها من المشهد بشكل منهجي ومنظَّم.

الأشقاء القطريون الذين أصرُّوا على أن يحترم جمهور دولي آتٍ من جميع أصقاع الأرض وينتمي لديانات ومعتقدات شتى الخصوصية القطرية، هل خطر ببالهم للحظة واحدة أن هناك (خصوصيات) سورية تتعلق بمجتمع متعدد الديانات والمذاهب والتوجهات السياسية والفكرية؟ وأن إصرارهم في المشهد السوري على تقديم دعم مالي وسياسي وإعلامي لتيار واحد فقط يتمثل بالإخوان المسلمين تحديداً (حتى لا ندخل في موضوع الحركات الإسلامية الراديكالية الأخرى الشائك و المعقد) قد أدى لاختلال شديد في توازن سياسي وفكري واجتماعي دقيق هو أهم مايميز المجتمع السوري؟ وأن هذا الاختلال كانت له آثاره الكارثيه في الموزاييك السوري الفريد ستكون له مفاعيله السلبية علينا كسوريين بغض النظر عن المجهول السياسي الذي تسير سوربة كلها باتجاهه؟ نظاماً و شعباً و معارضات؟ وأن هذا الإختلال كان هو الوصفة التي أعدت بموجبها (السَلَطَه) التي تحدث عنها المسؤول القطري السابق في وصفه لحال المعارضة السورية ؟

ليس المقصود من هذه السطور أن نعكِّر على الأشقاء القطريين فرحتهم في مونديالهم، بل هي دعوة صادقة لهم لإعادة النظر في تدخلهم المكثف و المركز في الشأن السوري، هذا التدخل الذي تجاوز اليوم مساحة التراب السوري و طال ولامس كل هيئات وتجمعات ومنصات المعارضات، سياسياً وإعلامياً وفكرياً واجتماعياً، وأنهم إن كانوا عاجزين عن التفاعل الإيجابي مع الطيف السوري من خارج تيارات الإسلام السياسي، فعلى الأقل أن يتخذوا موقفاً محايداً يسمح للتيارات الفكرية والسياسية السورية الأخرى بمنافسه شريفه في المشهد السوري المعقد، بعيداً عن التمويل القطري المخيف لطرفٍ دون غيره.

الموقف القطري المحايد الذي يتمناه غالب السوريين لا يعني بالضرورة افتئاتاً على تيارات الإسلام السياسي السورية، بل ربما على العكس تماماً، قد يكون دافعاً ومحرضاً لهم ليكونوا أكثر واقعيةً في تناولهم للشأن السياسي السوري، تساعدهم في ذلك ميكافيللية مزمنه لا يمكن نكرانها عليهم.

الإسلام السياسي السوري بعيداً عن أجندات إقليمية وتمويلات عربية، وقبل أن يعطيه عسف حكم البعث مظلوميةً عرف كيف يوظفها ويستفيد منها بدهاء شديد، كان لاعباً مهماً ومعقولاً في الحياة السياسية السورية، والأهم أنه كان يعمل بمرجعية داخل الحدود، لا خارجها.

الأجواء السياسية النظيفة بعيداً عن تمويلات ضخمة وعن عسف الديكتاتوريات، وبأجندة سوريه فقط، ساعدت في ظهور قامات وطنية مهمه من التيار الإسلامي كما من خارجه، أجواء كهذه كانت البيئه الطبيعية و السليمه لظهور قامه بحجم الدكتور مصطفى السباعي مؤسس الفرع السوري لحركة الإخوان المسلمين، والذي أثبت نفسه لاعباً مهماً وشريفاً في الحياة السياسية السورية، لا أدَّلَّ على ذلك من عمله الدؤوب وجهده المميز في البرلمان السوري عندما اختير عضواً في لجنة الدستور والتي أنتجت واحداً من أفضل الدساتير السورية عام 1950, كذلك العلاقة المميزة التي نسجها مع القانوني العالمي الراحل الدكتور محمد الفاضل، الذي كان أول من رثى الراحل السباعي في تأبينه عام 1964.

كان مشهداً سوريالياً بامتياز أن (الطليعة المقاتلة) للحزب الذي أسسه الراحل السباعي ستكون هي من تبنَّى تصفية رفيقه محمد الفاضل عام 1977، (ولو أن هناك روايات أخرى تشير لدور ما للنظام بذلك)، في مشهد مؤلم هو الأكثر دلالةً على التحولات التي طرأت على الإسلام السياسي السوري، عندما صارت مرجعيته خارج سوريا، و بأموال غير سورية.

الأمل السوري معقود اليوم على الأشقاء القطريين ليأتوا بمقاربة جديدة لدورهم في الشأن السوري، أو أن يبتعدوا عنه بالمطلق، قبل أن ننعي جميعاً سوريا، كما نعى الدكتور محمد الفاضل الشيخ مصطفى السباعي.

*كاتب سوري أميركي مقيم في العاصمة واشنطن

زر الذهاب إلى الأعلى