الاستماع للمقال صوتياً
|
أثناء بث مباشر على القناة الروسية الأولى، اقتحمت المحررة الحرة مارينا أوفسيانيكوفا البث حاملةً لافتة مكتوب عليها: أوقفوا الحرب لا تصدقوا هذه البروباغاندا، إنهم يكذبون. هذا الموقف الشجاع، في عقر دار القناة التلفزيونية للدولة الغازية، يستدعي تعميمه الى موقف من حروبٍ غير مبررة لا ينتج عنها إلا الدمار والخراب والإبادة، يستثنى من هذا الموقف طبعا حروب الدفاع والتحرير.
وبالعموم .. ما هي مبررات الحروب، عالمية كانت أو محلية، حركية أو تحريكية شاملة أو جزئية؟
يعتمد الطغاة ومشعلي الحروب، حججاً متشابهة ومتكررة لتبرير حروبهم منها أن الخطر كبير ويتعاظم، فالحرب آتية ومن الأفضل أن نقاتل الآن بدلاً من الحرب لاحقاً؛ الحرب ستكون سهلة ورخيصة (فقط إذا تحركنا الآن)؛ الحرب ستحل كل (أو على الأقل معظم مشاكلنا)؛ العدو شرير أو مجنون، بمعنى شيطنة الخصم، و تصويره على أنه تجسيد للشر؛ وأخيرا أن الدعوة للسلام في بعض حالاته هو أقرب إلى الخيانة الوطنية.
إذا كانت هذه مبررات الحروب، فما هي أسبابها الحقيقية؟
يتلاعب الطغاة مشعلو الحرائق بحقائق التاريخ والجغرافيا، ويخلطون نزوعهم العدواني بمبررات وحجج، لكن التاريخ الذي لا يراوغ يلخص الأسباب الحقيقية للحروب بما يلي: الطمع في الثروات الطبيعية. إيجاد منافذ حدودية. تحقيق الزعامة والسيطرة. حماية الأمن القومي ونغمة المجال الحيوي. النزاعات العرقية والعنصرية.
إن أسباب الحرب ليست أسباب نبيلة، فمن الصعب أن يتفق النبل مع اراقة الدماء وقذف القنابل وإطلاق الصواريخ. لقد عانت جملة المجتمعات الإنسانية من نتائج حربين عالميتين متتاليتين، تعاظمت نتائجها الكارثية من 17 مليون قتيل في الأولى، إلى 60 مليون قتيل في الثانية، وذلك خلال ثلاث عقود من الزمن.
ولتلافي تكرار هذه الحروب الكارثية، تداعت شعوب العالم وحكوماته ونخبه السياسية والفكرية، إلى مراجعة شاملة لنزعات الحروب والتسلح و العسكرة، وإلى مراقبتها وقوننتها والحد من غلوائها بمؤسساتٍ ومواثيقٍ ومحاكمٍ دولية، وتم وضع قواعد للحرب أو القانون الإنساني (كما تعرف رسمياً) وهي مجموعة من القواعد، التي تحدد ما يمكن وما لا يمكن فعله خلال نزاع مسلح.
يتجلى الغرض الرئيسي للقانون الإنساني، في الحفاظ على شيء من الإنسانية في النزاعات المسلحة وإنقاذ الأرواح، والتخفيف من المعاناة والمآسي، ولقد صدقت جميع الدول البالغ عددها 197 دولة على اتفاقيات جنيف (وهي العنصر الرئيسي للقانون الدولي الإنساني ). ويتعين على جميع الجهات التي تخوض الحرب احترام هذا القانون، ويترتب على انتهاك قواعد الحرب عواقب فالدول والمحاكم الدولية توثق جرائم الحرب وتحقق فيها. على ضوء هذا العرض، لنرى ما هي مبررات شن الحرب على أوكرانيا، والتي استدعيت ذكرى شاعرنا الجليل أبو العلاء المعري، لتسميتها بلزوم مالا يلزم
- الزعم بأن قوات الناتو تتقدم على حدود روسيا، وهذا الإيهام والتهويل لم يجد أي سند واقعي لصحته وبقي في خانة الادعاءات المضللة.
- الزعم بأن الهجوم الروسي هو حالة دفاع عن النفس، بموجب ميثاق الأمم المتحدة، ولو علم واضعو هذا الميثاق والمصدقين عليه إلى أي مدى تصل الإبادة والتدمير وسياسة الأرض المحروقة للدفاع عن النفس لسحبوا ميثاقهم من التداول.
- حماية فئات واشخاص، مقيمين في المناطق القريبة على الحدود أو ناطقين باللغة الروسية، وهذا وهم وإيهام و تلاعب بالحقائق والوقائع.
- إزاحة النازيين المتحكمين في أوكرانيا وعلى رأسهم الرئيس الأوكراني زيلينسكي وهو يهودي فقد ثلاثة أفراد من عائلته في الهولوكوست!
وفي المجمل فإن مبررات الحرب على أوكرانيا تعمد إلى الخلط بين عناصر تاريخية وواقع أوكرانيا الحالي. إن النتائج الأولى ظاهرة للعيان في الأيام المنصرمة منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا من خراب وتدمير وانتهاك قواعد الحروب الدولية ومواثيق الأمم المتحدة.
ومقابل مبررات الحرب المعلنة بادعاءات ووعود بتحقيق العدالة وصياغة نظام دولي أكثر أمناً، نجد نتائج وخيمة تتمثل في استعادة المخاوف وذكريات الحروب السابقة، وتتعالى الآن أصوات استعادة التسلحوي، جري استنهاض حلف الناتو من جديد بعد ركود وجمود، بدل ان يتم تهدئته وتبريده بالوسائل السياسية والدبلوماسية.
لم يحدثنا التاريخ أبداً عن انتصارات عسكرية مستدامة، فكل غزو وتوغل وطغيان انتهى عاجلاً أو آجلاً إلى مغامرات فاشلة وأساطير قوة تنتهي إلى زوال.