فريد زكريا: الهندي الوسيم ونجم الإعلام الأميركي
الاستماع للمقال صوتياً
|
زكريا: لا منازع لأميركا على قيادة العالم
لم تكن رحلة كريستوف كولومبوس البحرية المشهودة التي انتهت باكتشاف القارة الأميركية سَفَرا في المكان وحسب، بل شكّلت نقطة انطلاق إلى عوالم زمن مغاير أسس لنشوء أمة على رقعة جغرافية قاريّة الامتداد، أمة تشكّلت من موزاييك بشري عماده ملايين من المهاجرين الذين تحدّروا من قوميات وأعراق وديانات العالم كافة، أمة عابرة لحدود الثابت والممكن في حالة عامة من التناغم الاجتماعيوالتماهي في تيار الحريات الممتدّة التي لا تنقطع إلا عند مفرق انتهاك القانون ـ الابن الشرعي للدستورالذي خطّه الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأميركية، والذي يعتبر من أهم ما أنتجت وصدّرت إلى الشعوب، وبصماته تظهر ساطعة على معظم دساتير الديمقراطيات في العالم.
إلى الولايات المتحدة وصل فريد زكريا قادماً من مسقط الرأس الهند، متخذاً موطناً جديداً في تلك الساحة الغنية،جغرافياً وبشرياً، والتي ارتفع صرح حضارتها على أيدي المهاجرين إليها من بقاع الأرض كافة باحثين عن العلم أو العمل أو مستقبل أفضل لأولادهم في مناخ من الاستقرار والفرص المتاحة والمجتمع التعددي المفتوح على كافة القوميات والديانات. وصل زكريا إلى الولايات المتحدة ليأخذ بدوره نصيبه من العلم والفرص المتاحة لكل مجتهد طامح في الأرض الجديدة.
نشأته ومسيرته المهنية
زكريا من مواليد 20 كانون الثاني/ يناير من العام 1964 في مدينة مومباي بالهند. واتلداه مسلمان هنديان عملا في عالم السياسة بصورة وثيقة. فوالده، رفيق زكريا، من السياسيين المنخرطين بالمؤتمر الوطني الهندي، أما والدته، فاطمة زكريا، فكانت محررة في صحيفة الصانداي تايمز الهندية.
التحق زكريا بمدرسة وكاتيدرائية جون كونن في مومباي،وكان دوماً من الطلاب المتميزين. انتقل إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراساته العليا الجامعية حيث حصل على درجة ماجستير من جامعة ييل ثم درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة هارفرد العريقة، حيث نهل علومه السياسية من أستاذين مفكرين هما البروفسورستانلي هوفمن والمفكر صامويل هنتغتون.
باشر زكريا حياته المهنية كباحث في السياسات الخارجية الأميركية ثم اتجه كلياً إلى الصحافة بمنصب مدير تحرير لمجلة فورن بوليسي، ليلتحق بعدها بأسرة مجلة نيوزويكويتسلّم تحرير طبعتها الدولية. يعمل زكريا اليوم مع تلفزيون سي ان ان مقدماً لبرنامج “جي بي إس” السياسي الأسبوعي، هذا إلى جانب عمله الصحافي ككاتب مقال رأي سياسي في صحف واشنطن بوست ونيويورك تايمزووال ستريت جورنال.
أما في السياق الأكاديمي فقد درّس زكريا مناهج العلاقات الدولية والفلسفة السياسية، وذلك بجامعات هارفارد، وكولومبيا، وكايس ويسترن. وهو مفكر سياسي له العديد من الكتب والمؤلفات التي تحمل نظريات جديدة ورؤية علمية معاصرة للأحداث السياسية في العالم ومن أهمها كتاب “مستقبل الحرية: الديموقراطية اللاليبرالية في الوطن والخارج” نشر في العام 2003، و”عالم ما بعد أميركا” العام 2008، و “في الدفاع عن التعليم الليبرالي” العام 2015.
زعامة العالم
يرى فريد زكريا كما نقرأ في كتابه “العالم ما بعد أميركا”، أن تشكل الدولة الأميركية هيّأ لمرحلة من التحول البنيوي هو الأول من نوعه في صيرورة التاريخ الإنساني المعاصر؛ وأن هذا التحول شهد صعود القوى الغربية، الأوروبية بالأساس، باتجاه معارفَ وقيمِ ونظم جديدة. بيد أن هذه المرحلة انتهت مع بداية بروز الولايات المتحدة كقوة عظمى جديدة في مستهل القرن التاسع عشر، ما يمثل في نظر زكريا التحول البنيوي الثاني في التاريخ العالمي الحديث. وعند هذا التحول الأخير تبدأ رحلة زكريا في كشف “العالم الجديد”، أي مستقبل العالم في ظل تحولات جوهرية جديدة.
يسعى زكريا في كتابه للإجابة على أسئلة كبرى تتعلق بمستقبل القوى العظمى والصاعدة في العالم ولاسيما إثر حروب أميركا الخارجية في أفغانستان والعراق، بين قائل بحتمية انهيار الإمبراطورية الأميركية كاعتقاد المؤرخ البريطاني بول كينيدي في كتابه “صعود و سقوط القوى العظمى”، وبين من يرى أن الولايات المتحدة الأميركية ستظل فاعلا أساساً في أي نظام دولي مستقبلي، كما يرى ريتشارد هاس في مقال شهير له عنوانه “عالم بلا أقطاب”.
تعتمد رؤية زكريا على أن بعض الدول مثل الصين، والهند، والبرازيل، وروسيا قد تمكنت من تحقيق نتائج لم تكن مرتقبة على صعيد النمو الاقتصادي. كما يرى أن الولايات المتحدة الأميركية لم تعد دولة متفوقة في العمران من حيث المباني الشاهقة، حيث يرتفع أعلى مبنى في العالم اليوم في إمارة دبي وهو “برج خليفة” كما أن أكبر مجموعة تجارية هي مؤسسة صينية. لكن كل هذه المقدمات لا تعني، بالضرورة، أن الولايات المتحدة الأميركية ستفقد زعامتها العالمية. والأمر الذي يرجح هذا الاحتمال، عند زكريا، هو أن القوى الصاعدة ضمن التحول العالمي الحالي ليست جميعها قوى معادية للولايات المتحدة؛ يضاف إلى ذلك أن الفضل الأكبر في صعود القوى العالمية الجديدة يعود، في جزء كبير منه، إلى السياسة الأميركية نفسها؛
يورد زكريا بهذا الخصوص أنه، خلال العقود الست الماضية، لعبت الدبلوماسية والسياسة العالمية للولايات المتحدة دورا كبيرا في نشر اقتصاد السوق، و تمكين الحريات السياسية، وتوسيع التجارة العالمية، وتطوير التكنولوجيا والاتصالات؛ هذا بالإضافة إلى أن الإفادة من الخبرات والكفاءات الأميركية عالميا، وفي مختلف المجالات، قد لعبت دورا كبيرا في صعود عدد من القوى العالمية الجديدة.
يعرّج زكريا على أسباب غياب المنافسة الحقيقية للدور الأميركي من طرف دول كالهند أو الصين رغم تحقيق هذه الأخيرة معدلات نمو اقتصادي كبيرة في السنوات الأخيرة. ذلك أن عائدات النمو الاقتصادي في هذه الدول تذهب في معظمها إلى مواجهة التحديات التي يطرحها النمو الديموغرافي المتزايد فيها، وهو ما يحول عمليا دون توجيه هذه العائدات نحو التصنيع العسكري أو التطوير التكنولوجي، وذلك في الوقت الذي تظل فيه الولايات المتحدة متفوقة على القوى الثلاث التي تليها مجتمعة: ألمانيا وبريطانيا واليابان، علاوة على اتسام الاقتصاد الأميركي بالدينامية، وعلى كون الولايات المتحدة من أكثر بلدان العالم “شباباً” من الناحية الديموغرافية، وأعظمها استقطابا للأدمعة والخبرات والروافد البشرية من بقاع الأرض كافة. وإذا كان عامل النمو الديموغرافي يحول دون أن تلعب الصين أو الهند دور القوة العظمى التي تقود العالم، فإن اليابان يفتقر برأي زكريا إلى القوة البشرية اللازمة من حيث عدد السكان، ناهيك عن افتقاره إلى ثقافة سياسية تؤهله للعب دور من هذا القبيل. أما الاتحاد الأوروبي، في نظر زكريا، فتنقصه الوحدة القومية اللازمة للعمل القيادي الدولي، وهو لا يتصرف على الساحة الدولية كدولة واحدة. كما أن روسيا تواجه تحديات اقتصادية وسياسية داخلية تمنعها من لعب أي دور كقوة تقود العالم.
ظاهرة الإرهاب
يرى زكريا أن النظام العالمي الحالي سمح بظهور فاعلين جدد بأنماط مختلفة عن النمط التقليدي المتمثل في”الدولة القومية” باعتبارها الفاعل الذي ظل يحتكر مجال السياسة الدولية في الماضي. ويذكر في هذا الصدد نماذج الجماعات الإرهابية المنظمة، وكذا الشركات العملاقة متعددة الجنسيات. ولا تغيب عن زكريا تلك التحدّيات السياسية والدبلوماسية التي تواجه الولايات المتحدة، فالصين وروسيا أصبحتا فاعلان قويان في العديد من الملفات التي كانت حكراً على الولايات المتحدة لاسيما في منطقة الشرق الأوسط وفي كوريا الشمالية وفي القضايا الإيرانية المعلّقة؛ لكن زكريا يؤكد أنه لن يكون هناك نظام دولي بدون الولايات المتحدة الأمريكية؛ وأن دورها سيستمر في تحديد الأجندة الدولية، وترتيب أحجار شطرنج التحالفات لمواجهة الأزمات الدولية، وتعبئة الموارد، والقيام بدور الوسيط العالمي، في عالم يحاول أن ينأى بنفسه عن مشهدية القطب الأحادي.
وهكذا يرى زكريا أن الولايات المتحدة تحمل في ما يلزم من الحيوية السياسية الجاذبة، وأنها ما زالت منيعة عن الإصابة بوهن وترهل الدول الشائخة، وهي ستبقى تدير الدفة الدولية لزمن لا يستهان بامتداده في الألفية الثالثة.