موازنة القوى الجديدة في آسيا: أفغانستان، التحوّل الاستراتيجي الأمريكي
|
الاستماع للمقال صوتياً
|
كاليفورنيا – مقال الرأي
الدكتور عبيد الله برهاني
أفغانستان اليوم ليست مجرد دولة في قلب آسيا، بل صمام أمان لتوازن القوى الإقليمي. تتحول من ساحة نزاع إلى نقطة وصل استراتيجية تربط الخليج والهند وآسيا الوسطى، بفضل دعم واشنطن الذي يسعى لإعادة هندسة التحالفات والموازين الجيوسياسية. ويبرز التحالف الأفغاني–الهندي، إلى جانب الوساطة الدولية، كعوامل حاسمة لوقف التصعيد وتعزيز التنمية المستدامة. تلعب الولايات المتحدة دورًا محوريًا في هذا التحول الاستراتيجي، من خلال دعم استقرار أفغانستان وربطها بالمحاور الإقليمية، بما يخدم مصالح الشركاء الإقليميين ويواجه النفوذ الصيني والروسي
الاهتمام الأمريكي بأفغانستان يأتي ضمن إعادة تموضع استراتيجي يهدف إلى ضمان نفوذ واشنطن في جنوب آسيا وآسيا الوسطى، ومواجهة النفوذ الصيني والروسي. يمثل الانخراط الانتقائي مع أفغانستان، رغم هشاشة اتفاق الدوحة، وسيلة لتعزيز استقرارها وربطها بالمحاور الإقليمية، بما يخدم استراتيجية موازنة القوى ويدعم محور الهند–الخليج–أفغانستان.
من النزاع إلى الاستقرار: دور تركيا وقطر في معالجة جذور الأزمة الأفغانية–الباكستانية
لا تنفصل جهود “موازنة القوى” الأمريكية عن مساعي التهدئة بين كابول وإسلام آباد. يُشكل الحوار الباكستاني–الأفغاني الذي تستضيفه تركيا، بحضور فاعل لقطر ذات النفوذ الواسع في ملفات المنطقة، محطة مهمة في مسار التهدئة، في ظل مراقبة دقيقة من القوى الإقليمية وواشنطن.
تركز الأجندة الأفغانية المعلنة لمفاوضات التهدئة على قضايا جوهرية تتجاوز النزاعات الحدودية، لتطال الجذور التاريخية للأزمة:
آليات الرصد والسيادة: إنشاء آلية رصد وإشراف مشتركة لمنع الأعمال العدائية، واحترام القوانين السارية بما يحمي السيادة الوطنية ويحد من التدخلات المتبادلة.
معالجة الجذور التاريخية والفكرية للأزمة: مناقشة الأسباب الجذرية للمشكلات الأمنية والسياسية بين البلدين، بما يتجاوز الهجمات الأخيرة. فالحركات المسلحة في أفغانستان وباكستان نتاج عقلية أمنية واستراتيجية تراكمت عبر عقود، وظف فيها الدين والجهاد كأدوات سياسية وأمنية لخدمة مصالح إقليمية ودولية متباينة، ثم تحولت هذه الظاهرة إلى عامل زعزعة واستنزاف للطرفين. إن فهم هذه الخلفية شرط أساسي لأي تسوية واقعية ومستدامة.
تسهيل التجارة: رفع الحواجز التجارية وإنهاء الإغلاقات القسرية ووقف استخدام المعابر واللاجئين كورقة ضغط سياسية، بما يعيد الحيوية إلى طرق التجارة الإقليمية.
استراتيجية احتواء الأيديولوجيا: المؤسسة العسكرية الباكستانية وإدارة الصراعات
تُثار دعوى أن حركتي طالبان (الأفغانية والباكستانية – TTP) تلتقيان في الأيديولوجيا الديوبندية مع غالبية الأحزاب الدينية في باكستان. هذا التقارب الفكري يؤكد أن الخلاف بين طالبان الباكستانية والدولة الباكستانية هو خلاف سياسي وأمني على السلطة واحتكار القوة، وليس خلافاً أيديولوجياً جوهرياً.
هنا يبرز الدور المحوري للمؤسسة العسكرية الباكستانية (Establishment)، التي تستغل التباينات السياسية بين هذه الأحزاب لخدمة مصالحها الاستراتيجية:
الاحتواء والتسييس: تعمل على احتواء وتسييس الأحزاب الديوبندية الأكثر مرونة واستخدامها كـ “صمامات أمان” إيديولوجية.
التوظيف الاستراتيجي: تُستخدم الجماعات المتشددة كـ “أدوات جيوسياسية” لإدارة الصراع في كشمير والعمق الاستراتيجي الأفغاني.
إن جوهر المشكلة يكمن في أن الدولة الباكستانية سمحت بوجود وتغذية شبكة من الأيديولوجيات المتطرفة واستخدامها كأدوات تكتيكية، بينما تشن حربًا فقط على تلك الفصائل التي تتمرد على سلطتها.
الخليج–الهند–أفغانستان: دعائم الموازنة الإقليمية الجديدة
تسعى دول الخليج إلى تنويع شراكاتها الاستراتيجية، ولم تعد مقتصرة على الفضاء العربي أو الغربي، بل تتجه بقوة نحو الشرق وجنوب آسيا، حيث تشكّل الهند مركز ثقل اقتصادي وتكنولوجي وسياسي متنامٍ. ومع تقاطع المصالح الخليجية والهندية في مجالات الطاقة والتكنولوجيا والبنى التحتية العابرة للحدود، بدأت ملامح محور اقتصادي–أمني جديد يتشكّل.
هذا المحور يجعل أفغانستان الممرّ الإقليمي الرئيسي نحو آسيا الوسطى، تلك المنطقة التي تُعدّ “صرة الكنوز”. تجد أفغانستان نفسها أمام فرصة فريدة لإعادة تعريف موقعها الجيوسياسي: من ساحة صراع إلى عقدة ربط استراتيجية بين الخليج والهند وآسيا الوسطى. غير أن تحقيق هذا التحوّل يظل رهينًا باستقرار أمني مستدام يحدّ من التجاوزات الباكستانية المستمرة وتهديدات حركة طالبان الباكستانية (TTP)، ما يجعل الردع الاستراتيجي بالنسبة لأفغانستان ضرورة وجودية.
التقارب نحو الحلف الدفاعي الأفغاني–الهندي ودوره في إعادة تشكيل الموازنة الإقليمية
يشكل التقارب نحو التحالف الدفاعي الأفغاني–الهندي خطوة استراتيجية وعقلانية لإعادة التوازن الإقليمي ومواجهة النفوذ الباكستاني، مستفيدًا من استقرار الهند ومكانتها الاقتصادية والتكنولوجية لدعم أفغانستان دفاعيًا وتقنيًا. كما يشكل التحالف الهندي–الخليجي–الأفغاني ركيزة لتوازن القوى في مواجهة المحور الصيني–الباكستاني–الإيراني. تحت الغطاء الأمريكي، تتحول أفغانستان من ساحة صراع إلى نقطة وصل استراتيجية تربط المحاور الإقليمية وتفتح الطريق نحو “صرة الكنوز” في قلب آسيا، مع ضبط السلوك الباكستاني واحتواء النفوذ الصيني والروسي. إنها موازنة إقليمية تتشكل حاليًا، عنوانها التحول من الصراع إلى الربط، ومن الجغرافيا السياسية إلى الاقتصادية، متأثرة بتغير أولويات واشنطن الإقليمية، ما يستلزم تعاون الأطراف لضمان استقرار أفغانستان ودورها المحوري في المنطقة.
خاتمة
في المحصلة، تقف أفغانستان اليوم عند مفترق طرق حاسم، ليست مجرد ملعب لصراع طالبان، بل كمحور استراتيجي لإعادة توازن القوى في آسيا. تمتلك القدرة على التحول من ساحة نزاع مستمرة إلى نقطة وصل تربط الخليج، الهند، وآسيا الوسطى، وتتيح فرصة لإعادة صياغة التحالفات الإقليمية والدولية. لكن تحقيق هذا التحوّل يتطلب استقرارًا داخليًا، إصلاحات شاملة، صياغة حوار وطني يجمع القوى الملتزمة بالمصالح الأفغانية، وحوار إقليمي شامل مع تعاون استراتيجي بين القوى الكبرى والإقليمية.
إن استدامة هذا التوازن تستدعي وعيًا مشتركًا بأن أفغانستان ليست رهينة للصراعات، بل مفتاح للربط الاقتصادي والأمني في المنطقة وصمام أمان لاستقرار طويل الأمد. وبذلك، تتحول أفغانستان من مجرد جغرافيا إلى منصة استراتيجية للسلام، ومسرح لإعادة هندسة موازين القوى الإقليمية، وفرصة لإعادة تعريف مستقبل آسيا سياسيًا واقتصاديًا.