آخر التحديثاتأبرز العناوينمقال الرأي

الدوحة تحت الأضواء

الاستماع للمقال صوتياً
لعبة التوازن الإقليمي بين طالبان وإسلام آباد في ظل المراقبة الأمريكية
الدكتور عبيد الله برهاني

وسط تنسيق دبلوماسي محكم بين قطر وتركيا، تتكشف في الدوحة مفاوضات حساسة بين حكومة الأمر الواقع الأفغانية وإسلام آباد، مفاوضات تجسد أحد أعقد ملفات الأمن الإقليمي منذ عقود، والتي توجت بالتوصل إلى اتفاق لوقف فوري لإطلاق النار. ولا تُعد هذه المباحثات مجرد محاولة لتهدئة الحدود الأفغانية-الباكستانية، بل تمثل بوابة لرسم خرائط النفوذ الإقليمي وإعادة ترتيب العلاقات بين القوى الكبرى، من واشنطن إلى نيودلهي، مرورًا بالصين وروسيا ودول الخليج العربي.

تكتسب مفاوضات الدوحة أهمية استثنائية اليوم، إذ تتقاطع فيها الأبعاد الأمنية مع التوازنات الإقليمية والدور الأمريكي غير المباشر، في وقت أصبحت فيه حركة طالبان لاعبًا سياسيًا أكثر نضجًا واستقلالية مقارنة بأي مرحلة سابقة.

وفي هذا السياق، تواجه باكستان، التي نفذت سلسلة من الغارات داخل الأراضي الأفغانية أودت بحياة مدنيين، مأزقًا مزدوجًا: داخليًا بسبب تآكل الشرعية أمام الرأي العام والتباينات داخل المؤسسة العسكرية والاستخباراتية، وخارجيًا نتيجة تحولات موازين القوى الإقليمية التي أعادت طالبان ترتيب أوراقها بعيدًا عن النفوذ التقليدي لإسلام آباد. لقد كشفت هذه الغارات المتكررة محدودية قدرة باكستان على فرض نفوذها على طالبان بعد عقود من الدعم والتوجيه، وأظهرت أن استثماراتها الممتدة لأربعة عقود ضاعت بلا جدوى نتيجة سياساتها الخاطئة.

وأكدت صحيفة “واشنطن بوست” أن باكستان تواجه اليوم واقعًا جيوسياسيًا وأمنيًا جديدًا يتمثل بوجود نظام في كابول أكثر قوة واستقلالية، مما يعمق إحساس إسلام آباد بخسارة نفوذها التقليدي. كما زادت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، التي أشار فيها إلى أن “المهاجم كان الطرف الباكستاني”، من إحراج باكستان، مؤكدة مدى تأثير واشنطن كقوة ضغط غير مباشر في ملفات حيوية مرتبطة بالأمن والاقتصاد والتوازنات الإقليمية.

ورغم اعتماد باكستان على التوسط في علاقاتها مع طالبان، مستغلة هذا النفوذ المزعوم في محاولات متكررة لجذب الاهتمام الدولي بالفرص الاقتصادية، كالثروات المعدنية الهائلة التي تكتنزها أفغانستان، فإن هذه المساعي لم تحقق أي مكاسب استراتيجية مستدامة. والآن، بغض النظر عن الأهداف المعلنة أو الخفية التي سعت باكستان لتحقيقها من وراء الغارات أو الجلوس إلى طاولة المفاوضات في الدوحة، فإن تكتيكاتها لم تثمر. على العكس، يُعتبر رفض كابول استقبال وفد باكستاني رفيع المستوى عقب الغارات مباشرة بمثابة صفعة دبلوماسية، ومؤشرًا على تراجع نفوذها المتبقي في أفغانستان.

الأخطر من ذلك، أن هذه التحركات عمّقت الشرخ الداخلي في باكستان وفجّرت التباينات بين القيادات السياسية وصنّاع القرار داخل المؤسسة العسكرية، ما يُضعف موقفها الإقليمي بشكل ملموس ويزيد حالة عدم اليقين بشأن مسارها المستقبلي.

من جانبها، باتت حركة طالبان أكثر نضجًا واستقلالية، وأدركت كيف يمكن توظيف الحوار كأداة لتحقيق الانخراط او اعتراف دولي ومكاسب سياسية دون تقديم تنازلات جوهرية. ومع توسيع علاقاتها لتشمل الهند، أُحدثت معادلة توازن جديدة أثارت قلق إسلام آباد، التي رأت أن نفوذها التقليدي على طالبان أصبح مهددًا، وأن الحركة تسعى لاستثمارات استراتيجية بعيدًا عن السيطرة الباكستانية. وقد جاء هذا التقارب بين كابول ونيودلهي نتيجة سلسلة من الأخطاء المتكررة التي ارتكبتها باكستان، والتي أسهمت في دفع الطرفين لإعادة بناء الثقة بعيدًا عنها.

إن تداعيات الأزمة تتجاوز حدود جنوب آسيا لتطال الدول الخليجية، خاصة الإمارات وقطر والسعودية، التي لديها مشاريع استراتيجية واستثمارات كبرى في المنطقة، وتسعى للحفاظ على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف. أي اضطراب يهدد مصالح هذه الدول يجعل إدارة المخاطر الإقليمية أكثر تعقيدًا، بينما تراقب واشنطن المشهد عن كثب، مستفيدة من أي خلل لإعادة رسم موازين النفوذ دون الانخراط المباشر.

في هذا السياق، تتبلور ثلاثة سيناريوهات مستقبلية:

١-التهدئة المؤقتة والوساطة المشتركة: اتفاق فوري ومؤقت لوقف إطلاق النار في الدوحة، برعاية قطرية-تركية، مع جولات متابعة لاحقة في كلتا العاصمتين. يهدف هذا السيناريو إلى ضبط الحدود وتخفيف الضغوط الداخلية على باكستان، بينما تحافظ طالبان على مكاسبها الشكلية وتستمر المصالح الإقليمية والدولية الأخرى في المراقبة

٢-فشل المفاوضات والتصعيد الجديد: انهيار الحوار وعودة الغارات والاشتباكات الحدودية، ما يؤدي إلى خسائر كبيرة وتعميق الأزمة الداخلية في باكستان. هذا التصعيد سيعرض مشاريع الصين ودول الخليج للخطر، ويجبر واشنطن والقوى الإقليمية على تحريك وساطات عاجلة لاحتواء الانفجار.

٣-التحول الاستراتيجي طويل الأمد: اتفاق مستدام يشمل آليات رقابة دولية، وفصل طالبان عن التنظيمات المسلحة، وتفاهمات واضحة حول القضايا العالقة. يسمح هذا لباكستان باستعادة السيطرة على جزء من المناطق الخارجة عن نفوذها وتحسين علاقاتها الإقليمية، وفي المقابل تُعزز طالبان استقلاليتها، ويتم بناء الثقة بين كابول ونيودلهي، مما يضمن استقرارًا إقليميًا أوسع يعود بالنفع على مصالح الصين وروسيا ودول الخليج.

تؤكد مفاوضات الدوحة، بوساطة قطرية-تركية ونجاحها في وقف إطلاق النار، أن باكستان تواجه واقعًا جيوسياسيًا جديدًا، يتمثل في وجود نظام أفغاني أكثر استقلالية وقوة، كما أشارت إليه التقارير الدولية. لقد أدى فشل إسلام آباد في ضبط النفوذ إلى تقوية موقف طالبان الإقليمي. إن استمرار المتابعة عبر جولات مقبلة في قطر وتركيا يعد ضرورة لترسيخ الهدنة، لكن استقرار المنطقة على المدى الطويل يتوقف على قدرة باكستان على التكيف مع تآكل نفوذها، وقرار طالبان الحاكم الفعلي بالفصل الكامل عن الجماعات المسلحة، لتستمر الدوحة مركزًا حيويًا لإدارة توازنات القوى المعقدة في جنوب آسيا.

د. عبيد الله البرهاني

أكاديمي وكاتب سياسي أميركي من أصل أفغاني
زر الذهاب إلى الأعلى