آخر التحديثاتأبرز العناوينمقال الرأي

الغارة الباكستانية على أفغانستان ودور واشنطن في إدارة الصراع الإقليمي

الاستماع للمقال صوتياً

 كاليفورنيا – مثال الرأي 

بقلم د. عبيد الله برهاني

إن تنفيذ القوات الباكستانية لغارات جوية على كابول وإقليم باكتيكا الأفغاني، بالتزامن مع زيارة رفيعة لوزير الخارجية الأفغاني لحكومة الأمر الواقع، يتجاوز كونه مجرد حادث عسكري عابر. إنه لا يمثل مناورة استراتيجية ناجحة، بل يُنظر إليه كـحرب نفسية فاشلة تُثير تساؤلات عميقة حول الأمن الإقليمي، وسيادة الدول، ومركزية النفوذ الأمريكي في المنطقة.

هذه الخطوة، التي أدانتها كابل بوصفها “انتهاكاً صارخاً للسيادة الوطنية”، تكشف عن مدى الهشاشة التي تعتري العلاقة بين الجارتين. وتؤكد التعقيدات الأمنية المتولدة عن نشاط حركة طالبان باكستان (TTP)، التي تعتبرها إسلام آباد مبررًا رئيسيًا لعملها.

ومع ذلك، فإن اللافت هو أن باكستان لم تُعلن مسؤوليتها رسمياً وصريحاً عن هذه الغارات. هذا التناقض يشير إلى وجود خلافات داخلية حول طبيعة الرد، أو ربما يعكس عدم نجاح العملية في تحقيق أهدافها المعلنة، مما دفع إسلام آباد لتجنب تحمل المسؤولية المباشرة دبلوماسياً.

هذا التبرير يضع باكستان في موضع حرج، حيث أن استهداف الأراضي الأفغانية على هذا النحو يشير إلى فشل استراتيجي في معالجة التهديد الداخلي. ومما يزيد الأمر سوءًا، أن إسلام آباد لم تقدم أي شواهد موثقة لتعزيز موقفها أمام الرأي العام العالمي. بل إن معلومات تداولتها جهات غير رسمية عبر وسائل التواصل الاجتماعي أثبتت عكس الرواية الباكستانية، مما زاد من حدة التوترات على الحدود وأضعف موقف باكستان الدبلوماسي والإعلامي.

المأزق الاستراتيجي لباكستان والمكاسب غير المتوقعة لطالبان

تُبرز الغارة المأزق الاستراتيجي الذي تعيشه إسلام آباد. ففي الوقت الذي تحاول فيه باكستان تأكيد حقها السيادي في الدفاع عن النفس ضد تهديدات TTP، فإنها تُعرّض جهود بناء الثقة مع حكومة طالبان الأفغانية للخطر، وتُفاقم من مفارقة الأمن الباكستاني. كما أن الاعتماد على الحل العسكري في الأراضي الأفغانية يُنظر إليه كهروب من معالجة الجذور الأيديولوجية والقبلية للمشكلة.

على النقيض من القراءة التقليدية التي تُركّز على تآكل شرعية طالبان، يمكن اعتبار الغارة الباكستانية إخفاقًا استراتيجيًا لإسلام آباد، شكّل، في المقابل، ورقة تفاوض وقوة دفع شعبية غير متوقعة لحكومة كابل:

  • تعزيز الشرعية الداخلية: وفّرت الغارة المبررات لـتعبئة الدعم الشعبي حول قيادة طالبان، حيث سمحت لها بتصوير نفسها كـالمدافع الأوحد عن السيادة الوطنية، مما يُخفف من حدة الانتقادات الداخلية. هذا التوحيد يعزز شرعية الحركة الشعبية، خاصة بين البشتون على جانبي خط ديورند المتنازع عليه.
  • تغيير مسار التفاوض الدولي: منحت الغارة لطالبان ورقة تفاوضية قوية. فبدلاً من أن تُحاسب على فشل إصلاحاتها، تحوّل التركيز إلى انتهاك السيادة الأفغانية. هذا الموقف يسمح لكابل بـالمطالبة علنًا بالحق في بناء قدرات عسكرية مشروعة، ويفتح لها الباب لمطالبة المجتمع الدولي بـدعمها أو دمجها، كخطوات أولى نحو الانخراط الشامل.

التداعيات الجيوسياسية وتحوّل موازين القوى

إن النتائج الاستراتيجية للغارة تتجاوز العلاقة الثنائية وتؤثر على المشهد الإقليمي بأكمله:

  1. تقارب كابل ونيودلهي: الأخطاء الاستراتيجية الباكستانية، إلى جانب الغارة الأخيرة، أثرت سلبًا على الملف الأفغاني وأعلنت نوعًا من التوتر بين باكستان وأفغانستان، مما قرّب الهند من كابل وأنهى التردد بين العاصمتين. هذا التقارب يشكل تحدياً أمنياً وجيوسياسياً مضاعفاً لباكستان.
  2. أهمية أفغانستان في الميزان الإقليمي والدولي: تُعتبر أفغانستان نقطة انطلاق وبوابة إلى آسيا الوسطى لأطراف إقليمية ودولية. لذا، يبرز الدور الخليجي كعامل محتمل لتعزيز الثقة والموازنة بين كابل ونيودلهي، ضمن إطار مصالح مشتركة لجميع القوى الإقليمية. كما أن دولاً كبرى مثل الصين لا ترغب في أن يؤدي أي تصعيد غير مبرر إلى تهديد مصالحها الحيوية في المنطقة.

الدور المحوري لواشنطن في إدارة الصراع

وفي خضم هذا التوتر، يظل الدور الأمريكي محوريًا وذا أهمية استراتيجية بالغة. إن واشنطن، من خلال نفوذها الاقتصادي والدبلوماسي وعلاقاتها المعقدة مع القوى الإقليمية، هي القوة القادرة على إدارة هذه الأزمة ومنع تحولها إلى نزاع عسكري مفتوح:

الضغط الاقتصادي والتوازن الأمني: تُفضل واشنطن تبني نهج مزدوج؛ يتمثل في الضغط الاقتصادي عبر مؤسسات التمويل الدولية (لضمان تعاون باكستان)، بالتوازي مع تفعيل آليات المكافحة فوق الأفق (Over-the-Horizon) لضمان تحييد التهديدات الإرهابية المباشرة كالقاعدة وداعش خراسان، دون الحاجة إلى تدخل عسكري واسع النطاق.

دور الموازن الاستراتيجي: النفوذ الأمريكي هو العامل الاستراتيجي القادر على الموازنة بين الحاجة الباكستانية المُلحة لاحتواء الإرهاب، وبين مساعي كابل للحفاظ على سيادتها والحصول على الاندماج في المجتمع الدولي كخطوات أولى، قبل البحث في موضوع الاعتراف الذي ما زال بحاجة إلى الإيفاء بسلسلة من الشروط والتوافقات. إن أي انزلاق نحو مواجهة مفتوحة يهدد بانهيار الاستقرار في المنطقة بأسرها، وهو ما تسعى واشنطن لمنعه.

 وختاما تُمثل الغارة الباكستانية الأخيرة على الأراضي الأفغانية نقطة تحول حاسمة. لا تعكس هذه الأزمة فقط إخفاق إسلام آباد في إيجاد حل مستدام للتهديد الداخلي الذي تمثله (TTP)، بل تضع أيضاً حجر عثرة أمام أي تقدم دبلوماسي محتمل بين الجارتين.

في ظل هذا المشهد الإقليمي المتشابك، يظل النفوذ الأمريكي عنصراً استراتيجياً محورياً لا غنى عنه لتعزيز التوازن وإدارة المخاطر بين الأطراف المعنية. إن تجاوز هذه الدوامة من التوتر يتطلب بالضرورة الابتعاد عن الحلول العسكرية المنفردة. لذا، فإن المسار الأمثل يكمن في اعتماد الحكمة الدبلوماسية الرشيدة، مقترنة بـ تنسيق استخباراتي فعال ومُحكم يرتكز على مظلة دولية وإقليمية واسعة. هذه المقاربة الشاملة هي الضمانة الأساسية لدرء خطر انزلاق المنطقة نحو مواجهة قد تُفضي إلى عواقب وخيمة على الاستقرار الإقليمي والأمن العالمي.

د. عبيد الله البرهاني

أكاديمي وكاتب سياسي أميركي من أصل أفغاني
زر الذهاب إلى الأعلى