آخر التحديثاتأبرز العناوينرسالة المحرّرمقال الرأي

دولة الأوتوسترادات!

الاستماع للمقال صوتياً

واشنطن – مقال الرأي 

بقلم مرح البقاعي

هل قرأتم قبل اليوم منشوراً بقلم رئيس أميركي يكتبه ويحرّره باللغة العربية على حسابه الخاص الذي يتابعه الملايين في العالم؟ 

كانت هذه سابقة للرئيس الأسبق، دونالد ترامب، حين غرد يوم كان رئيسا، قائلا “هذا ما قد تبدوت عليه دولة فلسطين المستقبلية بعاصمة في أجزاء من القدس الشرقية”. 

أرفق ترامب التغريدة بصورة للخارطة المقترحة للدولتين الإسرائيلية والفلسطينية في إطار خطة سلام الشرق الأوسط، أو ما اصطلح عليه إعلاميا في ذلك الوقت ’صفقة القرن’، وكان مشروعا جدليا يحاول إنهاء النزاع بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني، وعلى طريقة جاريد كوشنر، صهر الرئيس ترامب ومهندس هذه الخطة.

استعادتي اليوم لهذه الواقعة القديمة إلى حد ما سببه أمران: الأول يتعلق بالعودة البالغة القوة للرئيس ترامب إلى الواجهة السياسية في أميركا مع ترشّحه مجدداً إلى  سدة الرئاسة في انتخابات 2024 المقبلة، وكذا تزامن هذه العودة مع أحداث الحرب الإسرائيلية الشعواء على قطاع غزة وعلى أهله العزل، بينما تتعالى الأصوات في واشنطن للضغط على إسرائيل بوقف الحرب والمضي في مفاوضات ‘حل الدولتين’  كوضع نهائي تتفق عليه كل الأطراف المنخرطة في النزاع، ويكون أكثر عدلاً من معطيات صفقة ترامب. 

لن أدخل هنا في التفاصيل والمقارنة بين الصفقة والحل حيث ينتظرنا شيطان التفاصيل، بقدر ما سأحاول أن أعود إلى الوراء على طريقة فلاش باك لأستعرض شريط الخسارات العربية والفلسطينية منذ نيف وسبعين عاما، في متوالية حروب بين الطرفين الفلسطيني المدعوم عربيا، والإسرائيلي المدعوم أوروبيا وأميركيا، وفي محاولات الطرف الأول استرجاع أرضه المنهوبة رويدا رويدا من قبل إسرائيل، وبغطاء دولي.

سأتوقف في استرجاع الأحداث مع الحلول التي اقتُرحت مع بداية سنوات النكبة الفلسطينية، وفي مقدمتها مشروع الرئيس التونسي الراحل، الحبيب بورقيبة، وما طرحه على الطرف الفلسطيني من مخارج سياسية تجاري الظرف الميداني في حينها، والمتراجع بإطراد في اتجاه الدعم المطلق لإسرائيل ومستوطنيها مقابل التنكّر المبهم لفلسطين وفلسطينييها.

في زيارته لمدينة أريحا في 3 مارس من العام 1965، ألقى بورقيبة خطابا في الشعب الفلسطيني ضمّنه رؤيته لطبيعة الحل الممكن للصراع الإسرائيلي الفلسطيني ضمن الظروف القائمة.

في خطابه توجّه الرئيس التونسي المؤسس للدولة التونسية الحديثة ما بعد الاستقلال، بالنقد الشديد لسياسة ’الكل أو لا شيء’ التي تتخذ منها القيادات الفلسطينية المتعاقبة من زعامات حركة التحرير نهجا استراتيجيا في تعاملها مع الأزمة الإنسانية والسياسية الكبرى إثر نكبة 1948، والتي شهدت تهجيرا قسريا للشعب الفلسطيني في عملية هي الأبشع والأكبر حجما في اقتلاع شعب برمته من أرضه التاريخية وإعطائها لمهاجرين قدموا من كل بقاع الأرض لا جامع لهم سوى عنصر الهوية الدينية اليهودية.

يقول بورقيبة في خطابه “إن سياسة الكل أو لا شيء هي التي أوصلتنا في فلسطين إلى هذه الحالة، وأصابتنا بهذه الهزائم، خصوصا وقد أبينا إلا أن نتجاهل وجود اليهود، وإلا أن ننكر التطورات والمعطيات الجديدة، وإلا أن نستهين بما حققه اليهود ونبالغ في تقدير قوة العرب وكفاءة جيوشهم”.

ويُسقط بورقيبة الحالة الفلسطينية على التونسية ويقول “وما كنا لننجح في تونس خلال بضع سنوات لولا أننا تخلينا عن سياسة الكل أو لا شيء. ولو رفضنا في تونس في العام 1954 الحكم الذاتي باعتباره حلا منقوصا، لبقيت البلاد التونسية إلى يومنا هذا تحت الحكم الفرنسي المباشر، ولظلت مستعمرة تحكمها باريس”. ويتابع “أما هنا، فقد أبى العرب الحل المنقوص، ورفضوا التقسيم وما جاء به ’الكتاب الأبيض‘، ثم أصابهم الندم وأخذوا يردّدون: ليتنا قبلنا ذلك الحل، إذن لكنا في حالة أفضل من التي نحن عليها”.

بورقيبة، وقبل ما يقارب الستين عاما، استطاع أن يتنبأ بأن عهدا سيأتي تصل فيه الخارطة الفلسطينية إلى الحال المزري الذي أعلنه الرئيس الأميركي الأسبق من واشنطن لشكل ’الدولة الفلسطينية’ الجديدة، وقد بدت أقرب إلى تشكيل تجريدي يجمع بقعا أرضية ضيقة ومتناثرة، لا حدود سيادية لها ولا عاصمة، تربطها أنفاق وجسور ومراكز تسوّق؛ بينما أُسقطت من حساب الدولة الفلسطينية، وعلى طريقة الصهر البيت الأبيض كوشنر، روابط الدم والتاريخ واللغة والعروبة والإسلام التي جمعت أهل فلسطين في مقامهم وشتاتهم في آن؛ لا بل طالب الرئيس الأميركي الفلسطينيين باغتنام ’فرصتهم الأخيرة’ ومراعاة المستجدّات، وبالتالي القبول بدولة ’الأوتوسترادات’ المحمية أمنيا من إسرائيل، وإلا خسروا كل شيء!

أما ’الكتاب الأبيض’ الذي تحدّث عنه بورقيبة، فيرجع بتسميته إلى الورق الأبيض الذي كُتب النص عليه لتمييز أهميته، وهو عبارة عن سلسلة من الوثائق الرسمية أصدرتها الحكومة البريطانية على امتداد سنوات إدارتها لفلسطين، وعددها أربع، موجهة إلى العرب الفلسطينيين.

كان أول هذه الوثائق ’كتاب تشرشل الأبيض’ الصادر في العام 1922، حيث سعت الحكومة البريطانية من خلاله إلى إزالة المخاوف التي تشكّلت لدى العرب إثر ’إعلان بلفور’، وذلك بالتأكيد على أن الوطن القومي لليهود الوارد في ذلك الإعلان “سوف لا يكون على حساب سكان فلسطين ككل”، وبأن “الحكومة البريطانية لا تفكر في القضاء على السكان العرب أو إخضاعهم”، وبأن “جنسية الجميع ستكون الجنسية الفلسطينية، والهجرة اليهودية لفلسطين ستخضع للقدرة الاستيعابية الاقتصادية”.

الكتاب الأبيض الثاني، أصدرته الحكومة البريطانية في العام 1928 للتأكيد على الملكية الإسلامية لحائط البراق في القدس، مع حقوق يهودية محددة للوصول إلى الحائط للصلاة.

تلا ذلك كتاب ثالث هو كتاب باسفيلد الصادر في العام 1930 ونص على “التزام الحكومة البريطانية بمصالح مجموعتي السكان من عرب ويهود، وليس بمصالح مجموعة واحدة”.

أما الكتاب الأبيض الرابع الصادر في تاريخ 1939/5/27، وهو ما أشار إليه بورقيبة، فينبني في مبدأه الأساس على إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية تشمل كل فلسطين الانتدابية غربي نهر الأردن، ويتمثّل فيها جميع سكانها من عرب ويهود على قاعدة التمثيل النسبي.

وكان وزير المستعمرات، مالكولم ماكدونلد، هو الذي تبنّاه وعمل على إصداره. وتعهد ماكدونلد بتنفيذه حيث جاء في الجانب الإجرائي للكتاب أنه “سيتم السير في هذه العملية سواء اغتنم كلا الطرفين (العربي واليهودي) هذه الفرصة أم لا”.

تكمن أهمية الكتاب في أنه ظل يشكّل عضد السياسة الرسمية الثابتة للحكومة البريطانية منذ صدوره، وعلى مدى سنوات الحرب العالمية الثانية، على الرغم من محاولات الالتفاف عليه من قبل الحكومات البريطانية المتعاقبة.

ومن نافلة القول إن الكتاب الأبيض الرابع صار إلى فشل ذريع، ليس بسبب محاولات الالتفاف البريطاني الرسمي عليه وحسب، وإنما بسبب غياب قيادة سياسية فلسطينية تضع الاستراتيجيات الرافعة له والدافعة لتنفيذ بنوده، هذا ناهيك عن انتفاء وجود دعم عربي فاعل في الاتجاه ذاته، الأمر الذي غلّب خيار التقسيم بتداعياته التراجيدية على حياة ومستقبل الشعب الفلسطيني كلّه، والعربي جلّه.

ومن أوراق تشرشل إلى توصيات بورقيبة، مرورا باتفاقية أوسلو وإرهاصاتها، ووصولا إلى صفقة القرن، لا يبقى لقارئ التاريخ الحيادي من خيار إلا تبني ’نظرية المؤامرة’ التي وصل بها أرذل العمر إلى السبعينات، ومازالت رياحها الصفراء تضرب بالألم والأمل الفلسطينيين، حتى وصل الحال إلى ما وصل عليه مع الصهر الأميركي المدلل، والأفكار السريالية التي ساقها وبنى عليها تصوراته لمستقبل شعب بأكمله هو اليوم لا حول له ولا قوة في غياب قيادات فلسطينية واعية كان بإمكانها أن تجنّبه هذا الانجراف القَدَري نحو الحافات.

صفقة القرن التي أعلنها البيت الأبيض في العام 2018 بحضور رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، هي الترجمة الأميركية السوداء لكتب بريطانيا البيض، تلك التي تمكّن تاج المستعمرات التي لا تغيب عنها الشمس من خلالها تحقيق الهاجس الأممي في إقامة وطن قومي ليهود العالم على ’أرض بلا شعب’. 

فهل يكون ’حل الدولتين’ هو الوصف البديل والنهائي المنصف لحق الفلسطيني المقبوض؟!
أتساءل…

مرح البقاعي

مستشارة في السياسات الدولية، صحافية معتمدة في البيت الأبيض، ورئيسة تحرير منصة .’البيت الأبيض بالعربية’ في واشنطن

‫3 تعليقات

  1. الكل أو لا شيء… فعلا” تلك أصل كل النكبات والنكسات والتردي، وبنهايتها أخشي ضياع الكل وبقاء اللاشيء… مقال رائع ومهم.. بوركت.

    1. حتى لو رضي العرب لن تعطي بريطانيا وربيبتها إسرائيل للعرب شيئ
      ماذا حصلنا من معاهدات السلام
      مصر مكبلة بقررارت كامب ديفيد وعاجزة ان تفتح المعبر

    2. حتى لو رضي العرب لن تعطي بريطانيا وربيبتها إسرائيل للعرب شيئ
      ماذا حصلنا من معاهدات السلام
      مصر مكبلة بقررارت كامب ديفيد وعاجزة ان تفتح المعبر

زر الذهاب إلى الأعلى