الاستماع للمقال صوتياً
|
تسير كل من واشنطن وموسكو على نهج “الغموض الاستراتيجي” في مذهبهما النووي.
إلا أن السؤال المشترك الذي يحكم القوتين النوويتين يبقى نفسه دون تغيير يطرأ عليه: ما هو الظرف الذي يستدعي كلا أو إحدى القوتين أن يلجأ إلى استخدام سلاحه النووي؟
بطبيعة الحال الإجابة على هذا السؤال تكاد تكون غائبة في ظل إفراط الطرفين في سياسة التعتيم النووي، ما يشكل خطراً مستتراً ورابضاً للعالم بأسره، وخاصة حين تكون العلاقات بين موسكو وواشنطن متوترة حتى حافات الأزمة كما هي اليوم.
فبينما يؤكد الرئيس الأميركي بايدن، وفي كل مناسبة، على ضرورة الحد من الانتشار العسكري للقوات الروسية الذي يمتد من أوكرانيا إلى ليبيا مروراً بسوريا ليصل إلى القطب الشمالي قبالة الحدود الأميركية الشمالية، نلحظ تجاهلاً تاماً من الطرف الروسي لمعاهدات الحد من التسلح ولاسيما النووي منه.
فهل ستكون خطوة بايدن التالية إعادة إحياء الشعار الذي اعتمده الرئيسان الأميركي، رونالد ريغان، والروسي، ميخائيل غورباتشيف في العام 1986 بأن “الحرب النووية لا يمكن كسبها ولا يجب خوضها أبدًا”؟ بل وهل ستبادر الولايات المتحدة بالإعلان أن ترسانتها النووية هي لهدف الردع حصراً وليس الهجوم؟
بينما الوفدان الأميركي والروسي يحضّران الوثائق الخاصة لوضعها على طاولة المفاوضات في جنيف كان الرئيس الروسي بوتين يستعرض القوة البحرية الروسية على ضفاف نهر نيفا في مسقط رأسه مدينة بطرسبرغ.
أشاد بوتين خلال كلمة ألقاها أمام نصب تذكاري لمؤسس الأسطول البحري الروسي بطرس الأكبر بالأسلحة النووية التي تمتلكها روسياقائلاً: “يمكننا تحديد موقع أي عدو، سواء كان على سطح الماء أم تحته أم فوقه. وإذا لزم الأمر توجيه ضربة لهم فلن يمكنهم تجنبها”.
في واقع الأمر فإن الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي(سابقاً) كانا قد وقعا منذ العام 1968 على معاهدة الحد من انتشار السلاح النووي (NNPT)، إلا أن التزام الطرفين بالمعاهدة مشكوك بأمره في ظل الأرقام الإحصائية التي تشير أن الدولتين تملكان 92% من حجم الترسانة النووية في العالم. أما الانخراط في محادثات جديدة مرتقبة فهو أمر مازال قابلاً للتأويل ما لم يطلق أي من الطرفين رسائل واضحة في هذا الاتجاه في ظل غياب مطلق للثقة بينهما.
وعلى الرغم من أن هناك قوى نووية في العالم تملك السلاح النووي بشكل معلن كالهند وباكستان وكوريا الشمالية والصين، وأخرى بصورة غير معلنة كما اسرائيل وإيران، إلا أن حجم المخزون النووي الروسي والأميركي هو الأكثر تحدياً لمعايير الاستقرار العالمي.
إدارة الرئيس بايدن وقعت في 4 فبراير/ شباط 2021 على تمديد معاهدة “ستارت الجديد” التي تهدف إلى خفض الأسلحة النووية في الولايات المتحدة وروسيا، وتضع حداً لانتشار الرؤوس الحربية الاستراتيجية, وبهذا ستكون الاتفاقية سارية المفعول حتى العام 2026. والمحادثات التي ستترأسها شيرمان في جنيف ستهدف إلى بناء الثقة ووضع الأدوات اللازمة ليكون هذا التمديد لستارت الجديد ذا جدوى على المدى البعيد، ويحمل إرادة قوية لدى البلدين في حسن تنفيذ المعاهدة.
المحادثات الروسية الأميركية تثير تفاؤلاً بين الدول التي لا تمتلك سلاحاً نووياً، والتي انضوت تحت مظلة “مبادرة ستوكهولم لنزع السلاح النووي” الهادفة إلى نزع أسلحة مدمرة من أخطر ما عرفته البشرية. وفي اجتماعها الرابع منذ تأسيسها العام 2019 أعربت الدول الستة عشر المشاركة ومنها ألمانيا وإسبانيا والسويد واليابان وكندا والأرجنتين، عن ترحيبها بالمحادثات الاستراتيجية الروسية الأميركية حيث حثّت الدول التسع المسلحة نووياً على تعزيز نزع السلاح من خلال اعتماد تدابير حازمة للوفاء بالتزاماتها بموجب معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.
أما الرئيس بوتين فقد أطلق في العام 2020 مرسوماً يحدد أسس سياسة روسيا في مجال الردع النووي. ويدرج المرسوم ملامح العقيدة النووية الجديدة والتي حددت الحالات التي يمكن لموسكو أن تلجأ فيها لاستخدام سلاح الردع النووي وتتلخص في الرد على اعتداء عليها أو على حلفائها باستخدام الطرف المعتدي سلاحاً نووياً أو أي نوع من أسلحة الدمار الشامل، وكذا الاعتداء على روسيا أو حلفائها باستخدام أسلحة تقليدية لكن بما يشكل خطراً وجودياً على الدولة.
إلا أن ما يقلق واشنطن في تفكيكها للغويات العقيدة الروسية الجديدة هو غياب عبارة صريحة تشير بوضوح أن موسكو لن تكون يوماً الطرف المبادر باستخدام الأسلحة النووية. وربما سيجد الوفد الأميركي في محادثاته القادمة تفسيراً منطقياً لغياب التطمينات الروسية في هذا الشأن، ولاسيما أن الضباببة السياسية تعتري العلاقات بين البلدين،ولم تبددها بشكل مقبول قمة الرئيسين بايدن وبوتين التي احتضنتها جنيف السويسرية أيضاً.