سوريا.. من تفاهة الشر إلى الدمار الشامل
الاستماع للمقال صوتياً
|
مونتريال – مقال الرأي
بقلم م. بسام أبوطوق
هي تفاهة الشر.. عندما تضع الظروف شخص عادي بل أقل من عادي (إلى حد مرعب) في موقع التحكم والسيطرة، وتتيح له تنفيذ مجازر وكوارث، كما عبرت الفيلسوفة الأمريكية حنة أرندت في تقريرها لجريدة النيويورك عن محاكمة النازي الهارب أدولف أيخمان.
فليس من المحتم أن يتمتع الشخص الشرير بطاقات فوق طبيعية ليكون مؤثرا” ومدمرا”لبلد وشعب بأكمله، ولا يتركه إلا خرابا”.
يقوم هذا الشخص بأعمال شريرة على مستوى تاريخي رغم بلاهته وسطحيته، ولكن هذه الأعمال لا تنم عن عبقرية أو فكر أو كاريزما. هذه التفاهة وهذه الدونية لا تمنع من القول أن صاحبها فاسد ملوث من الطراز الرفيع، ومجرم حرب من الطراز الأرفع.
تحررت سوريا من حكم ديكتاتوري جثم على صدرها مدة ستة عقود، وامتد أذاه الى الدول المجاورة لبنان وفلسطين والاردن، وتجاوز في تدميره المادي والمجتمعي حدود الخيال.
في عهده استبيحت سوريا وانقسمت وتوزعت إلى مناطق نفوذ أمريكية و روسية وإيرانية وتركية وإسرائيلية، وتحت جناح هذه القوى العالمية والإقليمية اقتطعت ميليشيات الأمر الواقع الكردية المنطقة الشرقية الغنية بالخيرات الزراعية والموارد المائية والثروة النفطية، و اقتطعت هيئة تحرير الشام محافظة إدلب في الشمال الغربي، واقتطع الجيش الوطني بدعم تركي مباشر مناطق شمالية محاذية للحدود التركية، هذا عدا مناطق نفوذ الميليشيات الإيرانية وحلفائها في الشرق والجنوب وحول دمشق وفي مقدمة هذه الاحتلالات وأخطرها إسرائيل في هضبة الجولان.
النظام الحاكم اللاوطني و اللاديمقراطي وعلى رأسه شرير التفاهة استدعى قطعان الذئاب والضباع للأرض السورية الطاهرة فاستباحوها.
الشعب السوري لم يستكين رغم السجون والمعتقلات والبراميل المتفجرة وخذلان الأصدقاء، وثورة تلتها ثورة وانتفاضة تلتها انتفاضة حتى انهارت سدود النظام، وكانت كلمة سر صغيرة هامسة من وزير الخارجية الإيراني كافية ليفر الديكتاتور الصغير، تاركا خلفه أنصاره ومؤيديه وحتى أقرب الموالين والأقرباء إليه، وكانت كافية ليطوي ٢٤ عاما من من المقاومة والممانعة وقبلها ٣٠ عاما من الصمود والتصدي،ولم ينسى في لحظة الهروب المتعجلة هذه أن يطبق شعار أنصاره المخدوعين( الأسد أو نحرق البلد)، فأخلى المصرف المركزي من ودائع العملات الصعبة، ووصلت الهمسة إلى الحدأة الإسرائيلية المتربصة على الحدود أن الجيش العربي السوري مباح لك فبيضي واصفري.
حسب نظرية ملء الفراغ، دخلت قوات هيئة تحرير الشام دمشق مدعومة بفصائل الجنوب من حوران والسويداء والتنف،والجيش الوطني بدعم تركي من الشمال، انسحبت ميليشيات إيران و اختفى جيش النظام والتزمت القوات الروسية بقواعدها في الساحل، تجاوزت إسرائيل خطوط الهدنة وشكلت منطقة عازلة جديدة من ضمنها جبل الشيخ، وضربت كل معدات الجيش السوري ((عالزيرو)) ، وما زالت تتوغل وتمتد إلى يومنا هذا.
بعيدا” عن الواقع العسكري ، توحدت معظم الأقسام المحتلة تركيا” وروسياً وإيرانياً مع ما تبقى من سورية المفيدة، ولم يعد خارج الاطار العام للوطن السوري إلا المنطقة الشرقية التي تسيطر عليها قوات سورية الديمقراطية تحت الحماية الامريكية، والاحتلال الإسرائيلي في الجنوب الممتد الى القنيطرة وأطراف حوران.
ولكن هيئة تحرير الشام التي حررت الشام فعلياً، والتي طورت من ايديولوجيتها الإسلامية المتزمتة وخطابها السياسي المتطرف إلى خطاب معتدل و نهج براغماتي يتبنى شعارات الثورة السورية وعلمها الأخضر، ويوحي بأن الهيئة هي استمرار لهذه الثورة الماجدة، فيما خلع قائد الهيئة ورجاله ثياب الميليشيات ولبسوا الثياب المدنية، وهذا تحول إيجابي لكنه يعطي إشارات ظاهرة ومبطنة ومختلطة لما كان وسوف يكون.
في المنحى الإيجابي تحررت سورية من الكابوس، بعد يأس وتشاؤم وصل بالحاضنة العربية وأوروبا وأمريكا للتفكير بتقبل رأس النظام رأس الأسدي مع إعادة تأهيله، ولولا الانهيار السريع بموازين القوى بدءًمن جنوب لبنان وانحسار النفوذ الإيراني وانشغال الدب الروسي في أوكرانيا ، لما تغيرت مواقف الدول الإقليمية والعالمية المتناحرة على الساحة السورية فيما يشبه صراع الكباش، ولما وصلنا إلى كلمة السر الهامسة التي ألقاها وزير الخارجية الإيراني في أذن ذو الرؤية الاستراتيجية فشمع الخيط وهرب.
وكما يخرج آلاف المعتقلين من سجون وأقبية النظام الهارب، متعبين منهكين بعد عقود من الاعتقال المستدام، كذلك خرجت سورية الوطن، مثخنة الجراح مثقلة الهموم مقلمة الأظافر، ليس لديها ولدى أبناؤها إلا الأمل والتشوف لتضميد الجراح وعودة الوعي وإعادة البناء.
سورية المريضة تخرج من غيبوبتها وتستعيد حياتها وتحتاج إلى خطة تعافي سريعة ، وبعدها تنظم أولوياتها وتبدأ مرحلة الشفاء ومن ثم إعادة الإعمار.
وإعادة الإعمار تتطلب ورشة وطنية جامعة شاملة لكل أطياف ومكونات الشعب السوري، لأنها إعادة إعمار مجتمعي اقتصادي مالي تعليمي ثقافي أمني مؤسساتي. تتكلل ببناء دولة مدنية ديمقراطية لا عسكرية ولا دينية ولا طائفية ولا عرقية . وهذه هي الصيغة الوحيدة للنهوض بالبلد من محنتها التي خضعت لها ست عقود من الزمن.
كل القراءات الأحادية الجانب تقابل بقراءات معاكسة، بينما تتجدول الأولويات الآن في الإجراءات العملية: استعادة الطمأنينة والأمان للمواطنين على تنوعهم، كبح الفساد المستشري عند حدوده، نزع الخوف عن المواطنين الذين عاصروا سجون وأقبية المخابرات المفزعة والمقابر الجماعية التي بزت وتفوقت على المحارق النازية( ولم يصدقهم أحد)،استعادة الخدمات الأساسية والحيوية من كهرباء ومواصلات وصحة وتموين، تحرير التعامل النقدي وإلغاء القيود المزيفة التي أثقلت كاهل الحياة الاقتصادية وأدخلتها في دوامات وكمون، هذه المهمات الأولوية وقعت على عاتق حكومة هيئة تحرير الشام، أما بعد ذلك فالشعب السوري المبدع، سليل حضارة آلاف السنين، في تعدده السياسي والفكري والثقافي والاجتماعي، والذي صمد ست عقود تحت هذا الكابوس الشيطاني، لقادر أن يبتدع صيغته
الخلاقة للنهوض المجتمعي عبر حوار ديمقراطي وانجازات تشاركية، تحقق مصالح كل الأطراف و تؤسس لمنظومة دستور وحكم وعقد اجتماعي جديد، عبر مرحلة انتقالية يتحدث عنها الجميع داخل الوطن وخارجه وفي الأروقة الأممية والمؤتمرات المحلية والدولية .
هل هناك تخوفات؟ نعم .. هناك نزوع للاستفراد بالحكم، والتمسك بالسلطة، واستسهال الإقصاء، وصعوبة العودة الى البدايات الوطنية، وتنظيف البلد من الفساد الداخلي، والحماية من الأطماع الخارجية والأعداء المتربصين. وكل هذا يوجب الانتباه والحذر والرقابة.
واقع البلد مفتوح على اتجاهين، فأما الغرق في مزيد من التناحر واعتماد صيغة نحن و هم، وإما وعي أن الوطن يحتاج إلى تضافر كل الجهود والأفكار على اختلافها, خشبة الإنقاذ هي صيغة واحدة وحيدة، حكومة ائتلافية- بعد المرحلة الانتقالية التي حددها البشير بثلاث أشهر- تشارك فيها كل الأطراف، وتضع جدول زمني لانتخاب هيئة تشريعية في مهلة سنة او سنة ونصف. ومن ثم تفكيك ابتلاءات النظام الهارب واحدة واحدة.
وسوى الروم خلف ظهرك روم/ فعلى أي جانبيك تميل
شاعرنا العربي الذي أجمعنا عليه أبو الطيب المتنبي
Well said, well written, well described
Proud of your reading