مقال الرأي

بالنسبة لإيران، ستحتاج أن تختار الآن بين الدكتور جيكل ومستر هايد

الاستماع للمقال صوتياً

كتب سمير التقي

إلى جانب تركيا، تمثل ‘يران جوهرة التاج بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط. بهذا المعنى نفهم وقوف واشنطن ضد ثورة مصدق، ومن ثم قلقها من احتمال انعطاف إيران نحو الاتحاد السوفيتي بسبب الاستبداد الشاهنشاهي، ليسقط الشاه بعدها بين عشية وضحاها، ولتمضي طهران في سياسة عمادها العصبية القومية والطائفية والعداء للغرب، ولا بأس في ذلك طالما أنه يتم بعيدا عن الاتحاد السوفياتي، وهو بيت القصيد في حينه.

لذلك كان الاحتواء بمعناه السلبي والإيجابي شعار العلاقة الأمريكية مع إيران، و لتتقوقع سياسات إيران إلى أن تضع أمام شعبها مهمات من العيار الثقيل مثل الشهادة في سبيل “تحرير العالم من الشيطان الأكبر” أو “تدمير إسرائيل” و”نصرة المستضعفين” الخ.

لكن مصيبة الأنظمة العقائدية انها تكون أنظمة فصامية بالضرورة. حيث ثمة فصام جوهري تتعايش فيه شخصية د جيكل الدبلوماسي المفاوض العقلاني مع أقصى أشكال العدوانية والعصبية العقائدية للمستر هايد الايراني.

تعرف الولايات المتحدة هذه الحقيقة جيدا، ففي نهاية الأمر راهنت أن إيران لن تختار في النهاية الأساطير العقائدية للعصبية القومية والطائفية، بل المصالح الوطنية الإيرانية.

في حينه سعت طهران حثيثا لبناء استراتيجية عملية لتعظيم مقدراتها التفاوضية الإقليمية بتدعيم موقعها ونفوذها مستغلة البعد العقائدي لتجنيد الشهداء للموت في سبيل تلك الأساطير.

وبالطبع كانت الأوساط الغربية تنظر إلى هذا الصراع على أنه إعادة هيكلة التوازنات الهشة أصلا في الإقليم لا أكثر ولا أقل. وكان ثمة اعتقاد بإن أقصى ما يمكن أن تصل إليه إيران هو تعظيم حصتها في التقسيم الاستراتيجي بين الأعمدة المكونة لإقليم الشرق الأوسط. ولكن، سرعان ما بدأت هذه العوامل الإشكالية التي يتم تحكم العالقة مع إيران في التداعي.

لنعد خطوة للوراء، فحين دخلت القوات السورية للبنان، عام 1976 كان رئيس الوزراء السوفياتي كوسيغن في دمشق، واعتبر دخول القوات السورية للبنان دون علم الاتحاد السوفياتي طعنة من الأسد في ظهره، إذ بدا كوسيغين كشاهد زور على توافق أمريكي سعودي على تفويض حافظ الأسد بإدارة لبنان ومنع سقوطه في يد المنظمات الفلسطينية التي سبق ان أخرجت من الأردن. وبدا في حينه أن التوافق العربي الامريكي مع الأسد اكثر واقعية من محاولة الاتفاق مع ياسر عرفات.

وهكذا صار الحضور السوري في لبنان مشروعا دوليا، لتقوم اسرائيل ببعض الحروب التصحيحية مثل حرب 1982. وتوكيدا لذلك جاء سحب الولايات المتحدة للبارجة نيوجرسي، ثم إدارة أمريكا لخدها الأيسر بعد تفجير سفارتها في لبنان، ليعزز الانطباع بقوة الاتفاق القائم مع الأسد طالما أن الأسد يدير اللعبة بمستوى من عال من الاعتمادية. وبالمقارنة بين اللوحة الإقليمية السابقة والحاضرة، ندرك الفارق فيما حققته النفوذ الإيراني من تقدم على مستوي الإقليم.

فإيران كانت تنظر لتفكك بنية الوتد الاستراتيجي العربي من كامب ديفيد إلى الحرب الأهلية في لبنان كدليل على ما كانت تعتبره نظرية راسخة من “أن العرب ليسوا إلا قبائل غير جديرين ببناء الدول”. وهكذا عملت إيران من تحت إبط حافظ الأسد ثم من فوق رأس بشار الأسد لتعزز تحول لبنان إلى ساحة نفوذ تستفرد بها.

لا شك أن إيران حققت ذلك بجهود كبيرة. ولكن ذلك ما كان ليتحقق إلا عبر جملة من العوامل أولها تراجع الموقع الإقليمي للنظام السوري وتسليمه تدريجيا لزمام المبادرة في لبنان ليد طهران، ثانيا تداعي الوتد الاستراتيجي العربي وانهيار النظام العربي الإقليمي خاصة بعد الحادي عشر من سبتمبر، ثالثا: الغزو الأمريكي للعراق وتداعياته الكارثية على الوضع الاستراتيجي العربي، وما تلاه من منع للعرب من المساهمة في إدارة كارثة الاحتلال الأمريكي للعراق في حين اعتبرت أمريكا إيران شريكا في الاستقرار فيه، رابعا: تكامل الانهيار الإقليمي العربي في سياق فشل الربيع العربي.

بالنسبة لأمريكا، كان وجود حزب الله في لبنان محتملا، طالما أن الضامن التاريخي المتمثل بالنظام السوري موجوداً. لكن ضعف النظام السوري ثم فشله في دخول عملية سلام مجدية مع إسرائيل، ومن ثم التخلخل التدريجي للنظام بعد وفاة حافظ الأسد، واغتيال الشهيد رفيق الحريري، ومن ثم تفكك النظام في ظل الانتفاضة السورية، كل ذلك رفع عمليا أي نوع من السيطرة للنظام السوري على دور إيران في لبنان وسوريا إضافة إلى العراق بالطبع. ومن جسد هذه الدول الثلاث استمرت العصبية القومية الطائفية الإيرانية تقتات بنهم.

لكن لا “الموت لأميركا” كان ممكناً، ولا “الموت لإسرائيل”، كان صادقاً، لتصير القدس مظلة في مسيرات إيران الجنائزية. ففي العراق علي سبيل المثال خرّبت إيران علاقة العراقيين بالفلسطينيين ودفعت بميليشياتها لتهجير الفلسطينيين الذين كانوا يتمتعون بحقوق مثالية.

رغم أن صعود النفوذ الإيراني في كل من العراق وسوريا ولبنان كان ضمن الهوامش المقبولة غربيا وإقليميا، بدأت إيران تخرج عن سيطرة النظام الدولي والإقليمي القائم. وفي حين نظر بعض الاستراتيجيين الغربيين للتوسع الإيراني على أنه ملء لفراغ موضوعي بعد انهيار الوتد العربي، لكن عيوبا جوهرية كانت تشوب هذا التصور:

أولها كان الطموح النووي الإيراني كانت نهايته العسكرية واضحة. ثانيها أن مستوى تسليح القوات المناصرة لإيران في لبنان وسوريا والعراق يتجاوز بكثير مجرد النفود بهدف القبول الدولي بدور إيران الإقليمي. ليصبح عنصر تهديد للسلم الإقليمي والدولي، وثالثها وأهمها حتما هو الفشل الذريع لإيران في أن تقدم نموذجا للسلام والتنمية والنجاح الاقتصادي في أي من البلدان التي أصبحت تنظر اليها بنهم، كطرائد تعتاش عليها. ذلك ان عصبية خطابها الطائفي كانت لا تسمح إلا بتصور إقصائي لا يمكن ان يكون مصدر استقرار.

فلئن كان الصراع الإقليمي سيودي لتغلب جهة لا تؤمن باستقرار الإقليم، وتبقيه بالتالي مفتوحا للقوى الدولية المنافسة للولايات المتحدة، فان ذلك يعني أن إيران أصبحت قوة تدمير لخصومها ودون أن تكون قوة عمران لحلفائها لتصبح بذلك خطرا على الاستقرار العام في الإقليم.

كل ذلك كان يعزز الانطباع أن مستر هايد الإيراني أصبح هو الشخصية الطاغية والمدمرة التي تقصي شخصية الدكتور هِغل الدبلوماسي العقلاني الناعم، المستعد للتفاوض على أي شيء مهما كان بما فيها “إيران كونترا” مع كل الكبار في سياق الصفقات التكتيكية والأمنية. بل صار مستر هايد يحمل الصواريخ والمفاعلات النووية ويقعقع بها.

وماذا عن إسرائيل؟
كانت العقلية الإسرائيلية تقوم أساسا على أنه لن يكون ثمة سلام يحيط بها يوما. لذلك، فبعد أن خرجت من بيروت، ثبت لها أن المزيد من الاحتلال للأراضي لن تغيير في وضعها شيئا. وكان عليها بالتالي أن تدير الخلطة الفريدة من الردع الاستراتيجي والتكتيكي من جهة، وتطوير الصفقات التكتيكية مع الأسد وايران، لتصبح الصيغة العملية لسياستها الإقليمية هي “الحرب بين الحروب”.

مع تداعي هيمنة النظام السوري من جهة، واستحكام إيران من جهة أخرى، كان لابد من التعويض عن تفكك الضامن السوري بإحضار بديل له. وبالنسبة لإسرائيل لم يكن ثمة بديل لحافظ الأسد أفضل من بوتين.

وبذلك أدار بوتين العلاقة الإيرانية الإسرائيلية مثل رجل المطافئ حريص على إبقاء الجمر مشتعلا تحت التراب، كي لا يفقد مصدر رزقه. لكن عبثية الشطارة الاسرائيلية في مراهنتها على إمكانية الوسيط الروسي المهيمن على ترويض طهران سرعان مما سذاجتها. إذ لن تنام لا إيران ولا اسرائيل في حضن بوتين.

ومع اقتراب تذخير مشروعها النووي، وتصاعد تواجدها الفيزيائي على حدود إسرائيل والأردن، وسعيها للتشارك مع روسيا في السعي لإخراج الولايات المتحدة من الخليج وبلاد الشام والعراق، كل ذلك جعل المحاولات المستميتة لإنقاذ الدكتور جيكل الإيراني من براثن مستر هايد أمرا عبثيا.

بالنسبة لإسرائيل، حتى لو كانت الدول العربية ضعيفة وتعاني من أزمات عميقة في بنيتها، فليس من مصلحتها أن يبقى الإقليم ثقبا أسود لكل أشكال التعصب والفوضى، ومحط هيمنة إيرانية أو ملعبا مفتوحا للقوى الدولية المتخاصمة.

ما لا تفهمه إيران حقاً هو ذلك الإصرار الإسرائيلي على الاعتراف بدور سلمي للعرب في الإقليم، الأمر الذي ينبع فهمها للتوازن الإقليمي. وحين يتعلق الأمر بأمنها القومي لا يمكن أن تكرن اسرائيل حتى لأقرب حلفائها، فكيف تركن لاتفاقات مع مستر هايد الإيراني يضمنها بوتين؟

لقد أسفرت التبدلات الاستراتيجية الأخيرة في الإقليم عن جعل إسرائيل تتمسك بالحيز الاستراتيجي الذي تشكله الدول العربية، فيما تنظر إيران إلى تلك الدول باعتبارها فضاء استراتيجيا ملحقا مثلما ينظر بوتين لمحيطه. وفي حين تعرض إسرائيل على الدول العربية تبادلها الاعتراف، تعرض إيران علاقة مع إسرائيل قائمة على ألا يكون ثمة وجود عربي في المعادلة الإقليمية.

ما تخطط له إيران شيء وما تراه إسرائيل مناسباً لها هو شيء آخر.
نعم لقد وصلت ايران للحظة حقيقة حاسمة تحتاج فيها أن تختار بين الدكتور جيكل ومستر هايد. ليس فقط تجاه القوى الإقليمية والدولية، بل وأمام أنصارها. فكيف يمكن لإيران أن تقنع أنصارها الآن بأنها لم تعثر بعد على فلسطين؟

د. سمير التقي

خبير سياسات الشرق الأوسط | مستشار في الدراسات الجيوستراتيجية | طبيب جراحة القلب
زر الذهاب إلى الأعلى