ثقافات

ريحانيّات واشنطن

الاستماع للمقال صوتياً

مرح البقاعي

هو رجل نبتت روحه في الشرق، وتعاظمت في الغرب، إلا أنها بقيت تحوِّم في دوائر لبنان الصغير الذي كان يحلم أبداً أن يراه موحّداً، حرّاً، قوياً بإنسانه، دامغاً أثره بين الأمم الكبرى.

“لبنان ـ باريس ـ نيويورك.. في الأول روحي، وفي الثاني قلبي، وفي الثالث جسدي”، هي مقولته الأشهر التي رسمت الخط الجغرافي لمسيرته الفكرية التي كتبت التاريخ قبل أن يكتبها.

إنه أمين فارس الريحاني، المفكر التنويريّ، اللبناني المولد، والأميركي المستقر؛ واحداً من أصحاب المحصلات المعرفية العالمية الذين واصلوا من موقعهم ما وراء البحار إثراء حركة النهضة العربية، بتقلباتها البنيوية كافة، ثقافيا وسياسياً واجتماعياً.

في واشنطن تقليد سنوي تقيمه عائلة الريحاني كل عام إحياء لمسيرته التنويرية الناضرة يحضره العديد من العرب الأميركيين والمستشرقين المهتمين بحركات الفكر التي شكلت الجسر الواصل بين شرق وغرب، وفي الاتجاهين.

ولد الريحاني في قرية الفريكة من قضاء المتن في لبنان في العام 1876، وتلقى علومه الأولى في المدرسة الفرنسية التابعة لإحدى الإرساليات في قريته الصغيرة. وفي الثانية عشرة من عمره رحل وعائلته إلى نيويورك حيث التحق في العام 1897 بكلية نيويورك للحقوق. أقبل الريحاني بشراهة على المصادر المعرفية والفكرية والأدبية التي أتاحتها الثقافات الغربية من إنكليزية وفرنسية وأميركية؛ وتأثر الريحاني الشاب بالمؤرخ توماس كارليل الذي كان ناقداً صعباً للمجتمع الاستهلاكي الرأسمالي الغربي حيث تسيطر القوة المستغِلة على مقدرات الشعب. كما انجذب الريحاني بشكل خاص إلى المفكر جون ريسكين الذي كان يعتقد بإمكانية الخلاص من الانحرافات الاجتماعية للمجتمع الرأسمالي عن طريق التربية الأدبية والفنية والأخلاقية.

أميركا لم تخلع عن الريحاني رداء العربية ولغتها العامرة، بل جعلته يتوغل في دراسة أمهات كتبها وأعلام مؤلفاتها حتى خلص إلى ترجمة لزوميات أبي العلاء المعري إلى الانكليزية، المؤلف الذي نشر في الولايات المتحدة في العام 1903 وكان علامة ناصعة ومبشّرة في طريق شهرته العريض.

وجهاً لوجه قابل الريحاني شرقا بغرب، راصدا كل منهما في أسقامه واعوجاجه، مشيرا إلى مواقع القوة والضعف في قواميهما، قابلا بمظاهر ورافضا أخرى. هكذا كانت “زيتونة” رسول الحضارتين: زيتونة “لاشرقية ولاغربية”.

وردا على مقولة المفكر الإنكليزي في ذلك الوقت ردياروز كيبلنغ” الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا”، كتب في مؤلفه “الريحانيّات”: “لدى الشرقيين من القناعة والاكتفاء ما لو وجد في الغرب لخفّ التكالب على الماديّات، ولقلّت الحروب ونكباتها. وفي الشرقيين، وعلى الأخص المسلمين منهم، من الديمقراطية الحقيقية في الحياة الاجتماعية ما لو توفّر لدى الغربيين ليسّر لهم حل مشكلاتهم”، ويختم “إن خلاصة الصحيح السليم من ثقافة الشرق والغرب، ممزوجة موحّدة، إنما هي الدواء الوحيد لأمراض هذا الزمن الدينية والاجتماعية والسياسية”.

 الشاعرة مي الريحاني استرجعت في لقائي معها مسيرة الريحاني وقالت:” رؤية أمين الريحاني تتلخص في ضرورة تحريك فكر الأفراد والمجتمعات والشعوب لجهة الاعتراف أن ممارسة الحريات والإصلاح وتأكيد التعددّية، سياسية كانت أم اجتماعية أم دينية، لهي من أوليات الحقوق الإنسانية. وأردفت:” لقد نذر الريحاني سنيّ عمره في محاربة مظاهر التطرف والاستبداد، وتمكين شعائر الكرامة الإنسانية، والدفع بحرية الفكر وقيم التسامح بين شعوب الأرض كافة”.

من أمهات تركة الريحاني الفكرية باللغة الانكليزية: رباعيات أبي العلاء ، اللزوميات ، مجموعة شعرية بعنوان أنشودة الصوفيين، وابن سعود ونجد. أما بالعربية فكتب: الريحانيات، ملوك العرب، تاريخ نجد الحديث، وقلب العراق . ومقدِّماً لمؤلفه الأهم “ملوك العرب”،والذي يدرّس في كبرى جامعات العالم، يقول الريحاني: ” تعالوا اسبحوا معي إلى بلاد عجيبة على فقرها، إلى شعب كريم على آفاته، وإلى أمة حرة أبية على ذنوبها”.

المفكّر الروسي زلمان ليفين، وفي كتابه الذي يحمل عنوان “فيلسوف الفريكة” يقول واصفاً أمين الريحاني: “في رأيه ـ أي الريحاني ـ أن العودة إلى الإيمان الخالص تمثّل الطريق الأسلم للقضاء على انقسام البشرية وتناحرها وشرذمتها، وهي وحدها الطرق التي تؤدي إلى الإخاء الإنساني العام”.

في العام 1940 توفي الريحاني في لبنان، وفي إصبعه خاتم، لازمه باستمرار، وقد نقشت عليه عبارة: “القوّة مع الحق، والحق لايموت”.

زر الذهاب إلى الأعلى