مقال الرأي

لو قبلنا أن “عفا الله عما مضى”، كيف تستعيد أميركا مصداقيتها في الشرق الأوسط؟

الاستماع للمقال صوتياً

سمير التقي

يثير الانعطاف الكبير في موقف الدول الغربية تجاه الوضع الدولي الكثير من التساؤل والشك لدى غير الغربية. ولا يزال الخطاب الإعلامي والسياسي والدبلوماسي للغرب السياسي عامة وللولايات المتحدة يقارب هذه الهوة بنفاق أعمى، ويستمر في ترداد متكرر للدعوة لنظام قائم على المبادئ والقواعد.

ولعلنا نعترف أن موقف العديد من الدول الأوروبية الغربية لم يتبدل بسبب حصافة السياسيين الأوروبيين، ولا يرجع فقط إلى وحشية الغزو الروسي غير القانوني وحده بل ساهم فيه أيضاً الخطاب السياسي والدبلوماسي الأوكراني حيث لعبت الروح الوثابة ومهارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في تواصلها مع الجماهير الغربية للحصول على الدعم لبلاده.

وأقرب الأمثلة علي ذلك الدور الذي لعبه النواب الشباب في البوندستاغ والذي لعبه الرأي العام في ألمانيا المتأثر بالخطاب النشط الأوكراني، في انهاء حالة التردد التاريخية لتحالف ميركيل – شولتز مع روسيا. لكن الخطاب السياسي الأمريكي بقي بعيدا جدا عن مقاربة عقول وقلوب الدول والشعوب في الجنوب العالمي!

لقد رفضت العديد من الدول الانضمام إلى الحملات الغربية لمعاقبة الاقتصاد الروسي وعزله دبلوماسيا. ليكتشف الدبلوماسيون الغربيون من جديد، والمرة بعد المرة، ان للرأي العام وزن ليس فقط الغرب وحده، بل حتى في روسيا ذاتها، بل وفي بلدان الجنوب وبلدان الشرق الأوسط أيضاً.

ولكن ما هو جوهر منطق بوتين؟ يختصر منطقه بأن “القوي يفعل ما يشاء وعلى الضعفاء أن يعانوا”! بماذا يذكرنا هذا المنطق؟ أليس هذا هو ذات المنطق الذي طبق على دول “الجنوب” من قبل القطب الأمريكي الأوحد لثلاث عقود بعد سقوط جدار برلين. وإذ توضح المداولات بين الدبلوماسيين الغربيين ونظرائهم من دول “الجنوب” تعاطفا كبيرا مع محنة الشعب الأوكراني وهم يعرفون أن هذه الدول تنظر لروسيا على أنها المعتدي، لكن المطالب الغربية بأن تقدم هذ الدول التضحيات المكلفة لدعم “النظام القائم على القواعد” تلاقي رد فعل تحسسي وبعض السخرية لدى هؤلاء الدبلوماسيين.

لم يكن منطق العلاقات الدولية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي يوما قائما على القواعد ولا على النظام الدولي. وبدلا من ذلك، سمح للولايات المتحدة بانتهاك القانون الدولي مع الإفلات من العقاب. والواقع أن رسائل الغرب بشأن أوكرانيا نقلت نبرة الصمم لدى دول الشرق الأوسط إلى مستوى جديد تماما، ومن غير المرجح أن تكسب دعم البلدان التي كثيرا ما شهدت أسوأ جوانب النظام الدولي.

وإذ تطالب هيلاري كلينتون باستخدام “الجزرة والعصا” للتأثير على السعودية لإبعادها عن بوتين، يتجسد الصلف العتيق للدبلوماسية الأحادية لما بعد الحرب الباردة. فثمة ذكريات مؤلمة في وعي الناس في الشرق الأوسط. ولئن كان الناس لا يتوقعون إجابات مظالمهم هذه، فإنهم يتذكرونها بمرارة حتما.

بسذاجة اعتقد البعض في واشنطن أن موقف الدول العربية تحصيل حاصل. ولكن هيهات! إذ يواجه الموقف الأمريكي عمليا بالكثير من التردد. وسيكون من الابتذال السعي إلى اعتبار الحاجة للغذاء أو للنفط كعامل رئيسي في هذا التردد في الشرق الأوسط. بل تتجاهل هذه المقاربة العوامل الأهم في موقف دول الشرق الأوسط لتنسبها الموقف لمجرد المصالح المباشرة.

العديد من الدول في الشرق الأوسط ترى نفاقا صارخا في تأطير الخطاب الدبلوماسي الأمريكي للحرب الأوكرانية. إذ من وجهة نظر الشرق الأوسط، لم تقوض أي دولة أو كتلة أخرى القانون الدولي أو المعايير أو النظام القائم على القواعد أكثر من الولايات المتحدة والغرب بشكل عام.

ثمة غيض من فيض في ازدواج المعايير في هذا السياق. وفي الشرق الأوسط بشكل خاص، تجلت اللامبالاة المنقطعة النظير والكيل بمكيالين التي أبداها الغرب تجاه المصالح الجوهرية لدوله الرئيسية وفي العديد من القضايا الإقليمية العديد.
لذلك تلاقي حاليا رسائل الولايات المتحدة نحو هذه الدول نبرة أعلى من الصمم. وترى هذه الدول نفسها على أنها الطرف المتلقي للأحادية وللتهور الأمريكي.

في ذاكرة المنطقة شواهد على عدم الشرعية الصارخة لغزو إدارة جورج دبليو بوش للعراق، ومن ثم إدارة الظهر للخراب والذهاب تحت شعار “Mission Accomplished”، وتدخل إدارة أوباما لتغيير النظام في ليبيا ثم إدارة الظهر ونفض اليد من مستقبل ليبيا، وتفويض امر مستقبل العراق لإيران، ثم تفويض أمر سوريا لإيران لإيران وروسيا لتقوم بأفظع الجرائم في كل منهما، من دون حساب، ثم لتنفض الولايات المتحدة يدها من جديد.

وإذ تحتفل إدارة بايدن بالمقاومة الأوكرانية المسلحة ضد الغزاة الروس، تحظر المعارضة الاقتصادية اللاعنفية للاحتلال الإسرائيلي الذي دام عقودا. ثم هناك “الحرب العالمية على الإرهاب”، التي زعزعت استقرار جزء كبير من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بينما قتلت أكثر من ضعف عدد الأشخاص الذين قتلهم الإرهابيون أنفسهم منذ هجمات 11 سبتمبر. وآخر ما حرر، ها هو الرئيس بايدن يفعل في أفغانستان ذات ما فعل بوش الابن، ليرمي الجمل بما حمل.

يذكر الناس بمرارة أيضا كيف جابهت الولايات المتحدة صلف وجرائم صدام برد كاسح، لكنها بالمقابل سحبت المدمرة نيوجرسي، ومسحت دون عقاب تفجير السفارة الأمريكية في بيروت الذي قتل فيه أكثر من 245 من المارينز على يد عناصر حزب الله لتخلي لبنان والإقليم لعقود تالية لصلف وجرائم إيران. بل ها هي تعتبر أذرع ايران في العراق شريكا أساسيا للولايات المتحدة في مكافحة داعش.

بل مضت الولايات المتحدة بعيدا في تقويض النظام والقانون الدولي عندما انسحبت من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بسبب انتقاده لمعاملة إسرائيل للفلسطينيين، وانسحبت من منظمة الصحة العالمية وسط جائحة كوفيد، وفرضت عقوبات على كبار المسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية لسعيهم للتحقيق في جرائم الحرب الأمريكية في أفغانستان. وخلافا لموقف حلفاذها الأوربيين ها هي تنقل سفارتها للقدس، وتعتبر الجولان أرضا إسرائيلية، أما الآن فان إدارة بايدن تدعو لتأسيس محكمة دولية للتحقيق في جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا. والآن تطالب الولايات المتحدة بأن تقدم دول الشرق الأوسط تضحيات هائلة ومكلفة – دون أن تبذل جهدا لمعالجة نقاط ضعفها واحتياجاتها الأمنية.

تلعب العواقب المدمرة للتدخل الأمريكي دورا مهما في حسابات البلدان في جميع أنحاء الشرق الأوسط. ويسعى معظمهم إلى إقامة علاقات وثيقة مع الولايات المتحدة. ولكن بسبب الأحادية الأمريكية، وإدارة الولايات المتحدة الظهر بشكل متكرر للخراب في الإقليم فإنهم يرغبون في خيارات لإيجاد أثقال موازنة ضد قوة الولايات المتحدة عند الحاجة.

إن ظهور نظام متعدد الأقطاب يوفر لدول الشرق الأوسط درجة من الحماية ضد المغامرة الأمريكية، دون أن يعني ذلك انها لا تدرك المخاطر الكبيرة التي يشكلها العدوان الروسي على أوكرانيا من على السلام والنظام والقانون الدولي.

لا يشكل دعم الشرق الأوسط قضية حيوية مباشرة بالنسبة للمعركة في أوكرانيا. لكن بالنسبة للولايات المتحدة، ثمة درس مهم هنا. فعلى مشارف كل حملة انتخابية أمريكية يتعهد كل رئيس أمريكي بالتوجه شرقا وبمغادرة إدارته للقضايا المتراكمة في الشرق الأوسط. ولكن سرعان ما تعيد الحقائق الجيو- استراتيجية توكيد أن الشرق الأوسط يبقى الحلقة والجسر في توازنات الدولية. هذا ما حصل مع بوش الأب، ثم كلينتون، ثم بوش الأبن، ثم … لكنه كلا منهم لم يقارب مشاكل المنطقة إلا من باب الترقيع الغليظ، للتراكم الرقع.

بعد غزو صدام حسين للكويت تعهدت الولايات المتحدة بدعم عملية سلام ذات مغزى في الإقليم، ثم ماذا حصل؟؟ والآن قد يقول الناس في الشرق الأوسط “عفا الله عما مضى!” ولكن ليس الأمر متعلقا بان تتجاوز منطقة الشرق الأوسط ما قد حصل، بل يتعلق دوما باستعادة الثقة بأن لا تدير الولايات المتحدة ظهرها من جديد. فهل لدى إدارة بايدن ما يكفي من القدرة على الالتزام في السعي طويل الأمد لتعزيز النظام الدولي والقانوني الذي أقامته هي في الشرق الأوسط؟
الأمر يتعلق برؤية جديدة ثم استراتيجية جديدة متكاملة تجاه الإقليم.

د. سمير التقي

خبير سياسات الشرق الأوسط | مستشار في الدراسات الجيوستراتيجية | طبيب جراحة القلب
زر الذهاب إلى الأعلى