آخر التحديثاتمقال الرأي

دفاعاً عن العقوبات ضد النظام السوري

سمير التقي

الاستماع للمقال صوتياً

تتصاعد في شرقنا الأوسط رغوة التهجم على العقوبات الدولية التي يفرضها الغرب على بعض الدول في الإقليم، ويجري الترويج لفكرة ان العقوبات هي أصل النكبات في المنطقة وأنها ليست سوى جزء من سياسات الاملاء الاستعمارية ولولاها لكان الشرق الأوسط بألف خير.

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وانضمام الصين لمنظمة التجارة، توسعت منظومة العولمة التي ترعاها وتديرها عمليا الولايات المتحدة. واستفادت من ذلك الصين في انجاز قفزتها الحضارية الكبيرة.

تنظر الولايات المتحدة إلي العقوبات على أنها مجرد إعلان بأنها لم تعد راغبة أن تكون هذه الدولة الناشزة أو تلك ضمن منظومتها الدولية التي تحميها وتديرها. وبذلك لا تكون العقوبات بديلا للحرب فحسب، بل تصبح أدوات اقتصادية تهدف لتعديل سلوك الدول. وفي أسوأ الأحوال إن اختارت هذه الدولة او تلك أن تخرج من المنظومة العالمية، فلا بأس ولتحاول خلق منظومتها الاقتصادية كما فعلت كوريا الشمالية أو تفعل روسيا الآن.

وإذ يجري الحديث عن العقوبات في الشرق الأوسط وكأنها أقبح الشرور وأفدحها، يتم التغاضي بشكل مذهل عن أشنع الجرائم فلا يجري نقاشها، ولا معالجتها بالطبع. فمن حماه، إلى تل الزعتر، إلى حلبجة إلي جرائم الجنجاويد وجرائم الإرهاب وحلب أو حروب الإبادة و و و… لا يجري التصدي لها وتحليلها بصفتها السبب الرئيسي للخراب القائم في الإقليم، بل يجري التعامل معها على انها من طبائع الأمور، ليصبح فشل الأنظمة الاستبدادية من طبائع الأمور أيضاً.

فمن فشل إلى فشل، لا خريف نزرع فيه ولا ربيع يزهر، بل تتدحرج بلادنا ابعد وأبعد نحو المزيد من الغرق في الاستبداد والفوضى وانهيار الدول. وأمام هذا الإستهبال المكثف في رؤية الحقائق، تحال المظالم ويحال الفشل ل”الإمبريالية والاستعمار والصهيونية”، وعلى رأسها العقوبات الاقتصادية الغربية.

ولكني أزعم انه طالما تتضارب مصالح البشر، فإنهم سيستمرون في الصراع فيما يبنهم. ورغم تعاطفي مع أحلام أولئك الذين يتصورون عالما بلا صراعات، فلعلنا نعترف أن الحلم يكون مضللاً ما لم يترافق بشروط وخطة لتحقيقه.

ليست المساعدات ولا العقوبات أداة حميدة، بل هي أدوات في الصراع الدولي. لكنها أداة بديلة للحرب. وبذلك، فإنها تحمل الكثير من صفات الحروب، لكنها تختلف عنها في درجة العنف لتصبح أداة تطويع تدمج القوة الناعمة بالقوة الاقتصادية.

فالهدف الجوهري من العقوبات ضد الأنظمة الاستبدادية ليس بالضرورة تحقيق نصر مؤزر صفري ضد خصم ما، بل إن هدفها تضييق قدرات تلك الأنظمة، وترويض سلوكها، وأحيانا خلق حافز تفاوضي يمكن من خلاله للمدنيين الفقراء الحصول على بعض الفوائد. ولأنها ليست حلا صفريا فانها بالتعريف أرحم وأكثر إنسانية وزكثر جدوى من الحرب بأشكالها المختلفة.

ولكوني سورياً ومن حلب، يمكنني القول أني كنت أفضل أن تفرض روسيا عقوبات على سوريا أفدح ألف مرة من تلك التي تفرضها الولايات المتحدة على نظام بشار الأسد، بدلا من أن تلقي روسيا ببراميلها المتفجرة وصواريخها “الدقيقة” التي قتلت المئات من أطفال المدارس والمرضى في المستشفيات. فإن كانت تلك القنابل فائقة الدقة، كما يتفاخر الروس، فتلك جرائم موصوفة، وإن لم تكن فانه قتل عشوائي للمدنيين. وينطبق الشيء نفسه على لبنان – وعلى حزب الله وإيران وما إلى ذلك.

ولكن، لنضع جانبا الجانب الإنساني كأساس أخلاقي يبرر العقوبات، ولنتحدث عن جدوى العقوبات من وجهة الاقتصاد السياسي للصراع ومن الوجهة الاستراتيجية. عند آخر تحليل، فإن العقوبات أدوات ذات مفعول طويل الأجل. ولعل ذلك أفضل! فالهدف الاستراتيجي والجوهري منها هو تفكيك التحالف السياسي والاقتصادي الذي تقوم عليه سلطة الأنظمة الاستبدادية.

وبقدر ما تكون العقوبات نوعية ودقيقة فانها تحد بشكل أكبر مناورة وتواصل الشبكات الاقتصادية المستشرية الحاملة للنظام. بل تستهدف العقوبات دفع القوى الاقتصادية غير المتورطة في جرائم النظام، والمحيطة به موضوعيا، إلى التخلي عن مشاركتها في تمويله، والسعي للابتعاد عنه.

ذلك أن أي نظام سياسي لا يمكن ان يدوم ويحيا بمجرد القمع، ولا بد له من قاعدة اقتصادية اجتماعية يتحالف معها. وتساهم العقوبات في تفكيك هذا التحالف، وتضييق القاعدة الاقتصادية للنظام. ولدينا الكثير من الأمثلة في ذلك. وبعد، فلولا العقوبات، لكان الاتحاد السوفييتي ليستمر عقودا عديدة، وليتفسخ ويتعفن تدريجيا كرجل مريض ينتظر الجيران إرثه، إلى أن يتبعثر أو تغزوه قوة عظمى ما. وبذلك تحمل العقوبات طابعا مزدوجاً كامناً. إنها أكثر بطأ من الحرب وأقل شناعة وفظاعة منها، لكنها في النهاية أسرع بكثير من ترك الأمور للتفسخ بحسب التطور الطبيعي.

فلقد سمحت العقوبات مثلا بتسريع إنهاء الحرب الباردة عبر ادماج بارع بين القوة الناعمة الامريكية والعقوبات على النظام الاقتصادي السوفياتي، لينهار بهدوء أنيق ومدهش وفادح. ورغم كل التضحيات التي دفعها الشعب الروسي بسبب هذا الانهيار فلا شك أن ثمن هزيمة الاتحاد السوفياتي كان سيكون أكبر بما لا يقاس سواء هزم حرباً او تركت الدولة لتنهار وتتفكك.

وحتى بالنسبة لدولة مثل سوريا، حدت العقوبات الامريكية على الاتحاد السوفياتي في السبعينات والثمانينات من نفوذ الاتحاد السوفياتي بشكل كبير وقدراته على النهوض بأجندته الدولية. فبعد عودتهم من موسكو في مهمة مفاوضات طويلة لزيادة الدعم الاقتصادي لنظام الأسد خلال حقبة تشيرنينكو، خلص المفاوضون السوريون إلى أن الاتحاد السوفيتي لم يعد قادرا على تقديم أي مسار جاد للتنمية، وأن لابد من التوجه نهائيا نحو أوروبا ولاحقا نحو الولايات المتحدة والبحث في عملية السلام. وينسحب هذا الأمر على خيارات العراق وبورما وكوريا الشمالية الخ..

نعم نستطيع القول بثقة إن العقوبات تعمل بذات المفعول في التجربة السورية. فهي تحد فعليا من ترسيخ وتفشي المافيا السورية الفاسدة، محلياً وإقليمياً. بل أضعفت العقوبات النظام السوري وعقده الاجتماعي مع مجتمع الأعمال في دمشق وحلب وحمص على نطاق واسع.

لقد ضيقت العقوبات بشكل كبير الأساس الاجتماعي للنظام الاستبدادي إلى الحد الأدنى، حتى داخل مجتمعه بالذات. بل نستطيع القول ان حتى أقرب العناصر الأوليغارشية إلى النظام، تفر الآن من البلاد، ليتركوا النظام ضعيفا بشكل متزايد ويكشفوا عن شبكاته لاقتصاد الظل والاقتصاد الأسود.

بل يبدو تأثير العقوبات واضحا على وجه التحديد في لبنان والأردن. فلقد سمحت العقوبات بتقويض أساس الاقتصاد الفاسد الذي ترسخ عبر العقود بين الشرائح السياسية اللبنانية والنظام السوري. صحيح أن لبنان يمر في واحدة من أصعب لحظاته السياسية والاقتصادية، لكن حقيقة الأمر أن اقتصاد الفساد الذي يديره النظام السوري بالتعاون مع حزب الله، كان يتفسخ ويتدحرج ببطء تحت وطأة هروب قوى الإنتاج والخدمات.

فلولا العقوبات كان سرطان الدولة الفاسدة سيتأبد لعقود، ولمضى يسري ويعشش، ولاستمر حزب الله يلتهم من جسد الدولة والمجتمع والاقتصاد. بل فتحت العقوبات الباب أمام الوطن اللبناني الفرصة لبدء طلاق بائن، بين الدولة الوطنية اللبنانية والاقتصاد اللبناني والمجتمع اللبناني من جهة، وبين مافيا النظام السوري وحزب الله.

وبالمقابل، تشير تقديرات المنظمات الدولية إلى أن ما لا يقل عن 40٪ من المساعدات الإنسانية التي تصل لسوريا من هذه المنظمات، يتم نهبها مباشرة من قبل “الجمعيات الخيرية” التابعة للنظام والأجهزة الأمنية وأمراء الحرب.

علاوة على ذلك، تظهر الأبحاث بما فيها أبحاثنا، أن الفساد واقتصاد الدولة المحسوبية هما العاملان الأساسيان في الانهيار الراهن. فلقد قام النظام بدعم روسي بتدمير متعمد، ومن دون أي مبرر، لمدن صناعية كبيرة تحيط بدمشق وحمص والضاحية الصناعية الكبرى حول حلب في الشيخ نجار. وبذلك فإن الخراب الراهن للاقتصاد ليس مرده للعقوبات التي لا تأثير لها على الوضع الاقتصادي العام.

العقوبات على النظام السوري تستهدف أصلا الأفراد والمؤسسات الفاسدة ذات الصلة بالجهد العسكري. ومهما حاولت جهات مختلفة مساعدة النظام السوري بحجة منع الانهيار الاقتصادي وتحسين الظروف المعاشية للناس، يبقى كل ذلك دون جدوى.

إنه جرن مثقوب تهرب منه الأموال من ثقوب لا تحصى ولا يصل منها للمواطن السوري إلا اليسير القليل وبعد أن يقدم المزيد من الخضوع والاستعباد لماكينة الحرب وأمرائها في النظام وفي روسيا وإيران.

لقد استشرى بشكل منقطع النظير نموذج الدولة الخارجة عن القانون، ليتحول الاقتصاد السوري من اقتصاد دولة، إلى اقتصاد أمراء الحرب والنهابين. في حين تنهار قدرات الدولة المركزية على السيطرة والقيادة على المستوى الإداري لصالح مقاطعات أمراء الحرب والفساد. لا تتحول الدولة السورية الراهنة إلي دولة فاشلة فحسب، بل تصبح دولة منهارة بكل المعايير. وهذا ليس بسبب العقوبات، بل بسبب نموذج وطبيعة النظام.

ويجبر غياب الحد الأدنى من الشرعية وسيادة القانون حتى رجال الأعمال الفاسدين الأكثر ولاء على الهروب من البلاد. أما أولئك الذين ما زالوا مستمرين في الداخل، فإنهم يسعون إلى الاستثمار في صفقات قصيرة الأجل، سريعة، وآمنة، ومربحة للغاية.

وبفضل ذلك نجد اتساع التفكك في الوحدة الاقتصادية للبلاد. فبحسب دراساتنا، لا يتجاوز قطر الدائرة الاقتصادية للإنتاج والتوزيع 70 كيلومترا على المستوى المحلي، مما يعني أن الاقتصاد السوري عاد تقريبا إلى ما كان عليه بعد انهيار الدولة العثمانية، إن لم يكن أسوأ. وتصبح هذه الحقيقة أوضح بشكل خاص بسبب التسرب المتفاقم للمهارات الشابة العليا والمتوسطة، بل من الشرائح الأقل تعليما أيضاً.

من جانب آخر يتحول الاقتصاد المحلي للمناطق الطرفية نحو الاندماج مع أقرب اقتصاد مجاور نشط. وهو بذلك يفلت من العقوبات. ونتيجة ذلك تحولت أجزاء من سوريا إلى أقاليم ملحقة بحكم الأمر الواقع مع جوارها التركي واللبناني والأردني والعراقي.

لقد سبق أن بنى السوريون بلادهم بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية دون مساعدة خارجية كبيرة. ومع ذلك، فان أيا من رجال الأعمال والصناعيين التقليديين الراسخين من دمشق وحلب وحمص وغيرها، لن يعود إلى البلاد تحت النهب الاستبدادي لمافيا النظام. ويوجد في تركيا وخاصة في ديار بكر وغازي عنتاب وحدها ما يقارب 600 من رجال الأعمال والتجار السوريين المؤثرين والنشطين، وهم يحجمون عن العودة دون توفير حد ادنى من الأمن الشخصي والاقتصادي.

وفي حين يعيش النظام على جثة المجتمع، فإنه لا يعمل من أجل توفير أي استقرار ولا سلم أهلي يسمح بالخروج من حال الحرب الأهلية. وهو بذلك يعمق الحفرة التي يغرق فيها. حقيقة الأمر أن الأزمة والحرب الأهلية السورية قد تستمر عقدا أو أكثر، لكن رفع العقوبات عن النظام لن يؤدي إلا إلى إطالة المظالم واستدامة التفسخ.

ولن يكون من مصلحة المجتمع الدولي بأسره ولا من مصلحة السلام في الإقليم إغلاق الجرح السوري بما فيه من قيح. وفي حين يتمثل جوهر الربيع العربي في انهيار نموذج رأسمالية دولة المحسوبية الريعية، فان فشل الربيع العربي والفشل التنموي المستمر في ارجاء الإقليم، يمهد بشكل متسارع لاختمار لموجة جديدة للربيع العربي.

على الجانب الآخر، ثمة وهم بأن أموال بعض الدول العربية قد تكون إنقاذا للوضع في سوريا. لكن حقيقة الأمر أنه ضمن السياقات الراهنة للبلاد ومع سيطرة الميليشيات وخاصة منها الإيرانية على المرافق الاقتصادية، فإن أية استثمارات لن تحقق أكثر من بعض مشاريع الترف والأبهة التي لن تزيد إلا في تفاقم الهوة الاجتماعية. إذ لا يمكن لهذه الاستثمارات أن تخفف معاناة الفقراء الذين بلغت نسبتهم ثمانين بالمئة من سكان البلاد بحسب احصاءات الأمم المتحدة.

وفي حين أن لكل أداة في الصراع تكاليف جانبية، لا شك أن العقوبات هي بالنتيجة أرحم وأكثر استهدافا من الصواريخ والبراميل الروسية. وفي حين يلتحق نظام بشار الأسد رسميا بحلف الأوليغارشية الدولية، فلعله يستمتع بالعقوبات في حين يولول منها، إلى أن يقضي الله امرا كان مفعولا.

د. سمير التقي

خبير سياسات الشرق الأوسط | مستشار في الدراسات الجيوستراتيجية | طبيب جراحة القلب
زر الذهاب إلى الأعلى