آخر التحديثاتأبرز العناوينثقافات

الفيلم الإيراني World war III

الاستماع للمقال صوتياً

فيلم داخل فيلم… وحرب داخل إنسان

القاهرة – أحمد المسيري

يُعد فيلم “الحرب العالمية الثالثة” للمخرج الإيراني “هومن سيدي” واحدًا من الأفلام التي تناولت البنية الاجتماعية والطبقية داخل إيران بجرأة وبأسلوب غير مباشر، وقد حصد هذا العمل جائزة أفضل فيلم في قسم “آفاق” بمهرجان فينيسيا السينمائي الدولي في دورته الـ 79 لعام 2022، إلى جانب جائزة أفضل ممثل لبطل الفيلم “محسن تنابنده” الذي جسد شخصية “شكيب”، ورغم أن الفيلم يعرض مأساة فردية، إلا أنه من جهة أخرى يكشف مأساة فئة من المجتمع تعيش في طبقات متراكمة من الظلم والقهر والاستغلال.

بُني الفيلم على فكرة “فيلم داخل فيلم”، فما يبدو مجرد تصوير لفيلم يؤرخ حياة طاغية مثل “هتلر”، يخفي واقعًا طبقيًا مريرًا، يُمارس فيه صُنّاع العمل نوعًا آخر من القهر والاستبداد على البسطاء العاملين داخل الفيلم، وكأن السينما نفسها تتحول إلى أداة لإعادة إنتاج القهر والاستبداد للإنسان بدلًا من تحريره، وتدور أحداث الفيلم حول الشخصية المحورية للعمل “شكيب”، العامل البسيط المهمش، الذي فقد زوجته وابنه في زلزال، ويعيش وحيدًا بلا عائلة أو مأوى أو وظيفة ثابتة، لكن الصدفة تضعه أمام فرصة عمل في موقع تصوير فيلم تاريخي يوثق جرائم “هتلر”، فيعمل عاملاً بسيطًا في موقع التصوير إلى جانب دوره ككومبارس صامت يؤدي دور أحد سجناء المعسكرات النازية، ولكن ما يبدأ كدور بسيط يتحول إلى كابوس، حين تضعه الصدفة مرة أخرى ليؤدي دور “هتلر” نفسه، فتتغير معاملة فريق العمل له، ويمنحه الدور سلطة وهمية، ومع تصاعد الأحداث يتحول التمثيل إلى واقع، ويصبح المقهور جزءًا من آلة القهر نفسها، وكأنه يعيد تكرار مأساة الإنسان الذي يلبس القناع حتى يلتصق بوجهه.

الإضاءة والصمت لغة للألم المكبوت

استطاع مخرج العمل هومن سيدي توظيف عنصر الإضاءة بما يتناسب مع الحالة الفنية للفيلم، فالإضاءة القاتمة وأجواء الشتاء الضبابية تحاصر المشاهد، وكأن البطل يعيش في عالم رمادي يخلو من الأمل، فالظلمة هنا ليست مجرد خيار بصري، بل رمزية لحالة وجودية تعبر عن غياب العدالة والرحمة، من جهة أخرى، قدم بطل العمل “محسن تنابنده” أداءً استثنائيًا اعتمد على لحظات الصمت التي تعبر عن عجزه وقلة حيلته، بينما عكست تعبيرات وجهه وعينيه الصرخات المكتومة بداخله، فقد نجح بطل العمل في تقديم تجسيد بصري لمراحل التحول الإنساني في أقصى حالاته، من الخضوع إلى التمرد، ومن القهر إلى الغضب، ومن الاتزان إلى الجنون والتوحش.

حرب داخل حرب

استخدم الفيلم أسلوب التناص عبر تصوير فيلم عن جرائم الهولوكوست، كرمزية لنوع جديد من الهولوكوست المعاصر، فالكومبارس الذين يؤدون دور ضحايا المعسكرات النازية يعيشون نفس المعاناة التي يجسدونها، لكن بطريقة معاصرة، فالفقر والعوز ووجود قوانين وسياسات تساعد على غياب حقوقهم وتوسيع الفجوة بينهم وبين أصحاب المال والنفوذ هي في واقع الأمر نوع من العبودية الحديثة المغلفة بديكور العمل الفني، فالإستغلال والقهر لم يعد يحتاج أفران غاز أو أقفاص حديدية وأسلاك شائكة بقدر ما يحتاج إلى نظام يفرغ الإنسان من إنسانيته، ومنتفعين وتابعين يقنعونه بأن الخضوع قدر وليس جريمة إنسانية.

الفيلم لم يتحدث فقط عن حرب عالمية انتهت، بل عن حرب أخرى مستمرة يخوضها الإنسان داخل نفسه، حرب مستترة ضد القهر الذي يتعرض له الأفراد الذين يعملون في منظومات أو كيانات تصنع من ضعفهم وقودًا لاستمرارها، فالفيلم هنا يعبر عن نوع من السينما الثورية حين تكشف عن نفسها كأداة للتعبير والكشف.

يفتح الفيلم الإيراني “الحرب العالمية الثالثة” باب التأمل في الإنسان عندما يصبح مهمشًا ومجردًا من إرادته، وعندما يصبح ضحية لأشخاص يستغلون فقره وعوزه بدلًا من مد يد العون له، كما يلقي الضوء على السينما عندما تصبح أداة للتعبير وكشف الظلم بدلًا من السكوت عنه، وعلى النقيض الآخر، عندما تصبح السينما منصة يمكن أن تُعاد عبرها صناعة القهر، وكأن الفيلم يهمس بمقولة نيتشة:

“من يحارب الوحوش، عليه أن يحذر لئلا يصبح هو نفسه وحشًا، ومن يطِلُ النظر إلى الهاوية، فإن الهاوية أيضًا تنظر إليه.”

أحمد المسيري

باحث في علم الإجتماع السياسي والرأي العام ،والإعلام، كاتب وناقد سينمائي حاصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية، الجنسية مصري
زر الذهاب إلى الأعلى