نتفلكس وأسطورة الموساد.. بين الدعم والتشكيك
نتفلكس الأميركية والوعي البصري العربي- 4
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – خاص وايتهاوس إن أرابيك
مقال رأي بقلم نشمي عربي
في المقال الأول من هذه السلسلة تحدثت عن حدود لمدى قدرة جهة واحدة على التفرد بتوجيه بوصلة أو تحديد رسالة العمل المرئي، سواء من قبل الشركات المنتجة له أو القائمين على تنفيذه، وفي الوقت الذي لا أنفِ فيه بالمطلق وجود مثل هذه التأثيرات حتى في الغرب، إلا أنني لا أرجح أنها تكون عادةً محصورة بجهة واحدة دون غيرها، مع مراعاة حيوية العامل المادي وتقدمه على العوامل الأخرى، وبناءً عليه فهل من الممكن أن يحمل العمل الواحد عدة رسائل معاً؟ وهل تتزايد فرص حدوث ذلك عندما يكون موضوع العمل خلافياً يتناول قضايا ذات حساسية خاصة لأطراف عديدة؟ كلٌ منها يريد للعمل أن يحمل رسالةً أو خلاصةً تختلف بالمطلق عن مثيلاتها لدى الطرف المقابل؟ ليس بين القائمين على العمل فقط، بل عند جمهور يحمل هو أيضاً وجهات نظر مختلفه ومتباعده حول الموضوع نفسه؟
في المقال الثاني تحدثت عن فريق عمل مسلسل نتفلكس “الجاسوس-The Spy” وتبايناتهم اللافته، والتي سأحاول اليوم تلمسها فيه، فبين “أوري دان” مؤلف الكتاب الذي اعتمده كاتب العمل للسيناريو، بكل ما يمثله بمواقفه اليمينيّة الموالية لخط “أرييل شارون” السّياسي، و “ساشا بارون كوهين” الذي اختاره المخرج “جدعون راف” ليقوم بدور “إيلي كوهين”، وشريكاً في الإنتاج التنفيذي، بكل ما يمثله “ساشا” المهتم بالحريات المدنية وقضايا اللاجئين، بتمايز لافت عن فريق العمل كله، والسؤال هو:
هل استطاع “ساشا” ترك بصمته المميزة في هذا العمل؟ كيف … وأين؟ وهل تمكن في زحمةٍ من الخيالات والمبالغات أن ينفذ إلى شخصية “إيلي كوهين” الإنسان ومن ثم الجاسوس؟ وهل استطاع أن يجسد التناقضات والمخاضات النفسية التي كان يعيشها “إيلي كوهين” بينه وبين نفسه؟ ومن ثم بين شخصيتي “إيلي كوهين” و “كامل أمين ثابت”؟ والأهم من ذلك كله التناقضات التي كان يعيشها “كوهين” مع مشغليه خصوصاً، والمجتمع الإسرائيلي عموماً؟
لابد أن أعترف أن أغلب التعليقات التي وصلتني عندما نشرت الجزء الثاني من هذه المقاله أشارت لضعف وركاكة وسطحية المسلسل، وأعترف أن انطباعي الأول عند مشاهدته لأول مرة لم يخرج كثيراً عن هذه القناعه التي أعتبرها حقيقة، ولكنها ليست الحقيقة كاملةً.
الحقيقة في هذه الآراء تستند غالباً للكم الكبير من الخيالات والمبالغات والأحداث العارية تماماً عن الصحة والتي زخرت بها حلقات المسلسل الست، والتي تتراوح تفسيراتها بين التشويق والإثارة، هذا إذا افترض المشاهد حسن نية القائمين على المسلسل، أمَّا في حالة سوء النية (وهي هنا مبررة تماماً بسبب طبيعة الموضوع والأطراف المنخرطة فيه) فإن التفسير الآخر هو أن المسلسل يساهم في دعم الأسطورة التي صنعتها إسرائيل لعميلها (الخارق) وقدراته التجسسية الخيالية، ولكن هل من الممكن أن المبالغة في بعض هذه الخيالات كانت مقصودة لخلق صورة تشي بمدى مخالفة (العميل الخارق) لأبسط قواعد العمل التجسسي؟ وبين هذه وتلك فهل حمل العمل مقاربات ما لقضايا خلافية كبرى عاشها ويعيشها المجتمع الإسرائيلي وتركت آثارها واضحةً في مسار إيلي كوهين التجسسي والشخصي لامسها المسلسل لأول مرة واستطاع تمريرها ولكنها ضاعت في زحمة المبالغات والاختلاقات العاريه عن الحقيقة؟
في المقال الثالث كنت مضطراً للعودة لِكَمٍّ هائل من الكتب والدراسات والنشرات والشهادات والمقابلات والحوارات التي تابعت موضوع إيلي كوهين وظروف تجنيده وعمله والقبض عليه، ومحاولة مقاطعة المعلومات آخذاً بالإعتبار اختلاف المعلومة بحسب مواقف وتوجهات أصحابها، للوصول لما قد يمكن اعتباره الفرضيات الأقرب لحقيقة هذا الموضوع التي أحاطتها الكثير من الخيالات، سواءً في الواقع، أو كما صَوَّرَهَا مسلسل نتفلكس.
خلال فترة وجوده في دمشق من 10 يناير/كانون ثاني 1962 وحتى القبض عليه متلبساً بتاريخ 18 يناير/كانون ثاني 1965 استدعي إيلي كوهين إلى إسرائيل التي كان يصلها عادةً عن طريق أوروبا ثلاثة أو أربعة مرات، وبتتبعي الدقيق لمسيرته من خلال مقاطعة العديد من المواد التي نشرتها مصادر متعددة ومختلفة، غربية وإسرائيلية، كان سهلاً أن ألاحظ أن مهمته في دمشق مرت بمراحل وسمات مختلفه وأحياناً متناقضه، وقد لامس المسلسل ذلك بشكل غير مباشر، مما يدل على إطلاع القائمين عليه (أو على الأقل بعضهم) على مجموعة المسارات المتباينه التي مرت بها هذه القضية الغامضة، وربما من هنا فقد اختار المسلسل أن يعرض فيها أكثر من وجهة نظر للدرجة التي تخال أنه يحمل مجموعة رسائل، بعضها سهل القراءة وواضح، ويساهم في صناعة أسطورة (الجاسوس الخارق) وربما إليها تستند مواقف من وجدوا (محقين) المسلسل ركيكاً وتافهاً، والآخر مُرَكَّب ومعقد، ويحتمل تأويلات متعددة، وكأنه ترك للمشاهد فسحة ليبني الموقف الأقرب لقناعاته، وتبعاً لمقدار المعلومات المتاحة له والتي ترافقت مع قضية إيلي كوهين برمتها.
الممثل العالمي “ساشا بارون كوهين” في محاولاته النفاذ لشخصية “إيلي كوهين” سعى إلى رسم صورة له تختلط فيها مشاعر ومؤثرات عديدة، من خلال حزمة من المواقف والمَشَاهِد التي استوقفتني، وسأتعرض لأهمها:
في الحلقة الأولى كان هناك موقف لافت تعرض له “إيلي” أمام زوجته “ناديا” عندما كانا يحضران حفل كوكتيل في منزل صديقتها التي هي أيضاً ربة عملها، وكيف طلب زوج هذه الصديقة (ومن الواضح أنهما من اليهود الغربيين الأشكناز) من “إيلي” عندما رآه للوهلة الأولى أن يخدمه كأساً من الشراب، ظناً منه أنه نادل في الحفل، وليس مدعواً، مستنداً ربما لملامحه الشرقية، فهو في النهاية يهودي سفارديمي، وفي حديثه مع زوجته “نادية” تلك الليلة يقول لها “إيلي”:
• هم يدعوننا لهذه الحفلات فقط ليضفوا عليها لوناً.
• هم يظنون أنهم أفضل منَّا،
• ليتهم فقط يعلمون مافعلته في مصر (مشيراً لدوره في عملية سوزانا الفاشلة والتي أدت لفضيحة لافون التي انهارت حكومة موشيه شاريت بسببها واستقال وزير الدفاع، وعُزِلَ مدير الإستخبارات العسكرية).
• هم (الأشكناز) عندما يرونني، يرون فيَّ عربياً، بكل بساطة..!!!
في الحلقة الثانية وخلال متابعة ضابط الحالة المسؤول عن تدريب كوهين ومن ثم تشغيله،
(The Handler)، يلاحظ مدى إصراره على النجاح في كل التمارين المطلوبة منه بوقت قياسي جداً، فيصفه قائلاً:
(هو كمن يحاول إثبات شيء ما)…!!
في الحلقة الثالثة، وأثناء وجود كوهين خارج اسرائيل في مهمته التجسسية، تقوم صديقة زوجته ومديرتها (الأشكنازية) بدعوتها لحضور عرض ترفيهي في أحد المسارح المهمه في تل أبيب، من تلك العروض التي لاتستطيع نادية دفع رسم دخولها المرتفع، فيصور المسلسل مدى الإثارة والسعادة التي شعرت بها نادية وعائلة زوجها كاملةً وكيف استعدت مطولاً بمساعدة الجميع لحضور العرض، ولكنها عند وصولها تتفاجئ بصديقتها تنتظرها بباب المسرح لتعتذر لها أن زوجها عاد من سفره بشكل مفاجيء، وقد اضطرت لأن تدعوه هو لمرافقتها للحفل لأن التذكرة غالية جدا …!! فتظهر نادية تفهمها وعدم اكتراثها لتعود لمنزلها في ضاحية “بات يام” بالباص العمومي، في منظر ذو دلالة مهمه.
في الحلقة السادسة كان هنالك مشهداً أكثر تعبيراً، عندما يأخذ “إيلي كوهين” زوجته نادية خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل إلى أحد مخازن التجزئة ويشتريان
لأول مرة تلفازاً من الحجم الكبير ومجموعة أدوات منزلية كهربائية ويتعرض لهم أحد موظفي الأمن في المتجر ليطالبهم بإبراز وصل الشراء، لإثبات أنهم دفعوا ثمن المشتريات، ويفهم كوهين فوراً أن السبب وراء ذلك هو ملامحه الشرقية، في تعبير واضح عن حالة تفاوت اجتماعي وطبقي يعيشها المجتمع الإسرائيلي بين اليهود أنفسهم، حسب رؤية المسلسل.
في هذه الحلقة أيضاً يدور حوار لافت بين “إيلي كوهين” ومُشَغِّلَهُ يعبر فيه كوهين عن مدى ضياعه بين شخصيته الحقيقية وشخصية “كامل أمين ثابت” التي يعيشها في دمشق، للحد الذي يجعل أحلام نومه هي أحلام “ثابت” وليست أحلام “كوهين”، وعندما يقول له ضابط حالته ألايقلق وأن هذا أمر طبيعي، وأنه سيعود تدريجياً لشخصيته الحقيقية بعد انتهاء مهمته، يجيب كوهين بشكل ملفت جداً (وماذا لو أنني لا أريد العودة؟)..!! وكأن الرسالة هي أن “كوهين” يشعر بالإنسجام أكثر مع نفسه وهو يعيش شخصية “كامل أمين ثابت” في دمشق محاطاً (بمعارفه وأصدقائه) السوريين…!!
قد تكون هذه المشاهد برمتها خيالية وتدور حول أحداث لم تحصل في الواقع، ولكنني أرى أن الممثل العالمي “ساشا بارون كوهين” استطاع من خلالها وببراعه شديدة أن يصور التناقضات الرهيبة التي كانت تمر بها شخصية إيلي كوهين الإنسان والتي تركت بصماتها في أدائه كجاسوس، فهو دائماً يعيش عقدةً تعتمل في ذاته أنه أقل مكانةً في المجتمع الإسرائيلي بحكم كونه يهودي شرقي عربي سفارديمي، لا يغير في ذلك أهمية الخدمات التي يقدمها لإسرائيل والمخاطر المترتبه عليه جرائها، وهو دائماً في سباق مع نفسه ليثبت أنه الأفضل أداءً والأكثر قدرةً، وبشكل مبالغ به جداً، وكأنه يحاول ردم الفوارق التي يعيشها في مجتمعه، غير دارٍ أن إصراره هذا سيكون أحد أسباب سقوطه المريع ونهايته المأساوية، التي صورها المسلسل بطريقة تراجيدية معبرة ومليئة بالأسئلة الكبرى التي عبر عنها الممثل “ساشا بارون كوهين” بمنتهى المقدرة في ثلاثة مشاهد مهمة:
• حديث إيلي كوهين مع الحاخام الذي أحضرته السلطات السورية لتلقينه قبل تنفيذ حكم الإعدام به، والوقت الطويل الذي استغرقه قبل توقيع رسالته لزوجته مما اضطر الحاخام لسؤاله في المشهد (( ياإلهي، هل نسيت اسمك؟)).
• خطواته المتثاقله نحو عربة السجن التي أقلته إلى “ساحة المرجة”.
• لغة جسده ونظراته الحائرة وهو يخطو باتجاه حبل المشنقة، والتي حملت تعابير هي مزيج من الرعب والحيرة والإستخفاف بكل شيء، مجموعه من المشاعر المتناقضة والمتنافرة التي تحمل دلالات لاحدود لها.
هذه المشاهد كلها أرى فيها أمران مهمان:
الأول هو محاولة لتحميل المسلسل مجموعة رسائل هي أكبر من قضية إيلي كوهين ومهمته التجسسية الخلافية، وبانسجام منطقي مع شخصية الممثل أكثر من شخصية إيلي الحقيقية.
والثاني والأهم هو أن “ساشا بارون كوهين” في تركيزه على هذا البعد الإنساني في شخصية إيلي كوهين قد مهد لقضية مفتاحية جداً وربما تحمل الجواب على كثير من الأسئلة المشروعه والتي سيكون من المفيد جداً الإجابة عليها للوصول لحقيقة قضية كوهين برمتها، منها مثلاً السؤال المتعلق بمدى قدرات “إيلي كوهين” الحقيقية، وفهمه لطبيعة المهمة المطلوبة منه، وهل خرج عنها دون طلب من مشغليه مدفوعاً بعقدة التفوق التي لازمته دوماً والتي كانت وراء رفض الموساد مرتين لطلب تجنيده؟ وكيف انعكس ذلك على أداءه التجسسي؟ وهل ساهم في سقوطه بأيدي المخابرات السورية؟
أتوقف هنا عند تصريح لافت لابنة كوهين “صوفي بن دور” على قناة الجزيرة:
((لا أعلم إن وجدوا أنه لم يكن ملائماً، لأن هناك روايات حول ذلك، أم أنه كان ملائماً جداً، لا أعلم مالذي قام به، أعلم أن هناك الكثير من الأساطير التي أعلم أنها ليست صحيحة)).
لا أنكر أن الأمر بتناقضاته كلها قد أثار عندي كماً كبيراً من الأسئلة المهمة، هل كان “إيلي كوهين” جاسوساً خارقاً فعلاً؟ أم أنه جاسوس عادي، وربما أقل من عادي، إن لم يكن فاشلا ؟! وإن كان الأمر كذلك فلماذا الإصرار على جعله أسطورة؟ ومن كان فعلاً وراء هذه الأسطورة؟ وما الغاية الحقيقية منها؟
أمران مهمان يحددان مدى نجاح أي جاسوس، الأول هو أهمية وحيوية مايقدمه من معلومات، والثاني نجاحه في الحفاظ على الساتر الذي يعمل من خلاله وتأمين سلامته، وكوهين فشل بالأمرين معاً، صحيح أنه عمل في دمشق لفترة فعلية تزيد قليلاً عن عامين ونصف قبل أن تكتشفه المخابرات العسكرية السورية وتلقي القبض عليه متلبساً وتحصل على اعترافات كاملة منه كررها أمام المحكمة التي مثل أمامها، ولكن مامدى أهمية وحيوية المعلومات التي تمكن من جمعها خلال هذه الفترة الطويلة نسبياً؟
أنقل عن موقع “ناعموش” للدراسات العسكرية الإسرائيلية الذي حاور “البريجادير جنرال “داني آشر” المؤرخ العسكري الإسرائيلي الذي عمل خلال فترة وجود كوهين في سورية وحتى عام 67 في تحليل المواد الإستخباربة عن الجبهة السورية، فقد جاء في الموقع:
تم تداول الكثير في الكتب والمقالات وعلى نطاق واسع حول المعلومات التي حصل عليها إيلي كوهين عن الجيش السوري ومخططاته وتحصيناته على الحدود مع إسرائيل، ولكن وفقًا لما قاله “دان آشر” حرفياً:
((الأمور ليست دقيقة، كل هذا هراء))!
ويتابع “آشر” للموقع نفسه:
((كل هذه المواقع كانت معروفة للإستخبارات العسكرية الإسرائيليه (أمان) حتى قبل وصول “إيلي كوهين” إلى سوريا، نعم هو جاء إلى “الحمة” كما هو مكتوب على لافتة هناك لأنه مكان سياحي، لكنني لا أتذكر قراءة معلومات منه عن التحصينات السورية في الجولان ولم يطلب منه أحد الذهاب لهناك)).
مما اضطر موقع “ناعموش”لسؤال “آشر” بشكل مباشر:
((هل هذه القصص عن إيلي كوهين لا أساس لها من الصحة))؟!
فيجيب “آشر”:
((أنا لا أستخف بقيمته كبطل، لكن مساهمته الاستخباراتية فيما يتعلق بالتحصينات السورية في مرتفعات الجولان كانت بين صفر ولا شيء!!
على طول الهضبة كانت هناك تحصينات سورية تطل من أعلى ، وكانت معروفة لنا من الصور الجوية)).
الكاتب والباحث الأميركي “ويسلي بريتون” المتخصص بقضايا التجسس والذي نشر بحثاً مهماً عنوانه (ملف إيلي كوهين) قال لنفس البرنامج:
((السيطرة على الجولان كان أمراً أكثر تعقيداً من أن يرجع نجاحه لمعلومات معينة، هناك الكثير من المصادر التي تحدثت عن أن ماتم ذكره عن دور “إيلي كوهين” في ذلك كان أمراً مبالغاً فيه، وأنا أعتقد ذلك))، ثم يضيف بريتون:
((كانت نقاط ضعف كوهين كبيرة وقد انتهك قوانين عمله باستخدام الراديو بشكل مكثف، عكس التعليمات التي زود بها))، الأمر الذي أكده أيضاً الصحفي الإسرائيلي المتخصص بشؤون الإستخبارات “نوعام تيبر” الذي قال:
(( كانت تعليمات مدربيه ومشغليه ألا يستعمل الراديو لأكثر من دقيقتين ولكنه تجاوز ذلك كثيراً)).
ثم يضيف “تيبر” بوضوح شديد:
((المنظومة العسكرية السورية في مواجهة إسرائيل بالجولان تم رسم خرائطها في إسرائيل بواسطة التصوير الجوي والتنصت، لايوجد شيء سري، لا اليوم، ولافي ذلك الوقت)).
كل ذلك يؤكد أنه باستثناء المعلومة اليتيمة التي مررها كوهين حول مشروع تحويل نهر الأردن والتي تمكنت اسرائيل بموجبها من قصفه وتعطيله نهائياً، فكل ما مرره كان مجرد أخبار عامة يسمعها من “جورج سيف” في الإذاعه قبل أن يتم بثها للعموم بساعات، وبعض المعلومات الإقتصادية العامة التي كان يسمعها من مالك شقته “هيثم القطب” من خلال عمله في المصرف المركزي.
“نادية كوهين” زوجة إيلي ذكرت في مقابلة معها أن بعض من عملوا مع زوجها أَسَرُّوا لها أنه كان جاسوساً غير ذي أهمية.
بناءً على كل ماسبق، هناك سؤلان مهمان يحضران بقوة:
الأول هو إذا كان إيلي جاسوساً عادياً، وتتحكم في شخصيته عوامل عديدة (تمت ملامستها في المسلسل ولو أن ذلك جاء في سياق خضم من المبالغات والإدعاءات التي ثبت مخالفتها للحقيقة)، فلماذا كان الموساد مُصِّراً على مهمته؟ خصوصاً وأن المعلومات التي حصل عليها كانت متواضعه جداً؟
والثاني لماذا الإصرار على أن يصنع منه أسطورة قام بنفيها العديد من الدارسين والباحثين الإسرائيليين والغربيين؟ لابل بعض مسؤولي الموساد السابقين.
والحقيقة أن الإجابة على هذين السؤالين اضطرتني لبحث عميق وموسع لكافة السياقات التي مرت بها قضية كوهين بل وتجاوزتها بمراحل، وأزعم أن نتيجتها كانت غريبه ومذهلة لسبب بسيط جداً، وهو أن الموساد لم يقم على الإطلاق بتجنيد “إيلي كوهين”، بل على العكس تماماً، فقد ذكرت عدة مصادر أنه تقدم مرتين بطلب الإلتحاق بالموساد وتم رفض طلبه في المرتين.
المحلل الإستخباري الإيطالي “صموئيل زوفا” ذكر في دراسة مهمة نشرها موقع “Gray Dynamics” للاستخبارات بعنوان:
Mossad Espionage in Damascus
In The Lion’s Den:
((حتى قبل دخوله إسرائيل، تقدم إيلي مرتين للعمل في الموساد دون جدوى، في الواقع ، على الرغم من التقييم الإيجابي العام، لاحظ الفاحصون ميلًا إلى المبالغة في تقدير قدراته والتوترات الداخلية، ومع ذلك، وبفضل مهاراته اللغوية في اللغات العربية والفرنسية والعبرية، بدأ العمل كمترجم في المخابرات العسكرية الإسرائيلية)).
لفهم تعقيدات الموضوع كان لابد من قراءة موضوعية ودقيقة للبنية الإستخباراتية الإسرائيلية والمتغيرات التي مرت بها تزامناً مع تجنيد كوهين لأول مرة في مصر ومن ثم انتقاله لإسرائيل عام 1957 والمراحل التي مرت بها علاقته بكل من جهازي الإستخبارات العسكرية (أمان)، والخارجية (الموساد)، وكيف كان للعلاقة بين الجهازين دوراً مهماً وحاسماً في سيرورة قضيته ونهايتها السوداوية، القراءة التي أزعم أنه لن يستقيم فهم صحيح لهذه القضية الغامضة في معزلٍ عنها.
كماذكرت في الحلقة الماضية فعلاقة كوهين بدأت في مصر مع الوحدة 188 في الإستخبارات العسكرية (أمان) والتي تتبع لقيادة الجيش، وكانت حتى عام 1963 هي المكلفة بالنشاط الإستخباري في الدول العربية، خصوصاً المحيطة بإسرائيل، والتي أطلقت عمليتها السرية (سوزانا) التي كان لكوهين دور ثانوي فيها، واستهدفت المصالح البريطانية والأميركية في مصر، وأدى اكتشافها لما عرف لاحقاً بفضيحة (لافون) التي أطاحت بحكومة “موشيه شاريت” ووزير دفاعه “بنحاس لافون” وإزاحة مدير (أمان) “بنيامين جيبلي”، وعودة “بن غوريون” لرئاسة الحكومة.
العلاقة المتوترة بين (أمان) و (الموساد) تعود لتاريخ طويل من التنافس (الغير إيجابي) بين الجهازين الحساسين، ولعل أهم أسبابها محاولات رئيس الموساد المزمن “إيسير هاريل” بسط نفوذه فوق (أمان) مستغلاً علاقته القوية ببن غوريون، الأمر الذي تصدى له دوماً جنرالات (أمان) وهيئة الأركان.
لم يكن “هاريل” رئيساً عادياً للموساد، وهو رغم أنه ثاني رئيس لها منذ تأسيسها عام 1949 على يد “روفين شيلواح” إلا أن “هاريل” يعد فعلاً المؤسس الحقيقي للعمل الإستخباري في إسرائيل، فهو قبل رئاسته للموساد عام 1952 كان قد أسس وأدار جهاز الأمن الداخلي (شين بت/الشاباك) عام 1948, وعندما اختاره “بن غوريون” عام 1952 لرئاسة الموساد، بقي محتفظاً بسلطاته على (الشين بت) فصار مطبقاً دون منازع على العمل الإستخباري الداخلي والخارجي في إسرائيل لفترة تزيد عن أحد عشر عاماً متواصلة، الإستخبارات العسكرية (أمان) كانت الجهاز الوحيد الذي لم يستطع “هاريل” بسط نفوذه عليه، وقد تجلى الصراع الحقيقي بين الجهازين عندما قام “بن غوريون” عام 1962 بتعيين الجنرال “مئير عميت” على رأس (أمان)، الأمر الذي اعتبره “هاريل” بداية لانحسار نفوذه خصوصاً بأنه تزامن مع فتور علاقته ب “بن غوريون” الذي زادت هواجسه من النفوذ المتزايد ل “هاريل” بعد تدخله في الحياة السياسية في إسرائيل.
كان الرجلان “هاريل”و “عميت” مصنوعان من قماشتين مختلفتين تماماً، ورغم أن كلاهما بدأ حياته كعسكري في صفوف (الهاغاناه) إلا أن “هاريل” لم يتم النظر إليه يوماً كعسكري، لقد كان محللاً بارعاً ويهتم بأدق تفاصيل العمل الإستخباري، خصوصاً مايتعلق بالجانب البشري، بالمقابل كان “عميت” جنرالاً مخضرماً قاد لواء (جولاني) وترأس (شعبة العمليات) في الجيش، قبل أن يختاره “بن غوريون” لترؤس (أمان).
كان تلمس الفروقات بين طبيعتي عمل الجهازين ومديريهما أمراً ضرورياً جداً في فهم مسارات قضية “إيلي كوهين” الذي كان يعاني دوماً عقدة رفض الموساد مرتين لتجنيده، رغم اعتقاده الشديد بمقدراته وإمكانياته، ليقرر بعدها الإبتعاد عن عالم الإستخبارات بالمطلق ويترك (أمان) إثر رفضه الإنضمام لوحدتها (188) للتجسس، ومن ثم يعود للعمل معها إثر فقده لعمله المدني، والحقيقة هي أن كل دارس بعمق لمسارات قضية “كوهين” لن يحتاج كثير عناء ليلاحظ أنها لم تحمل يوماً بصمات أو أسلوب عمل الموساد.
بدأ كوهين مهمته مع (أمان) في دمشق بداية عام 1962، لتدخل منعطفاً جديداً في مارس/آذار 1963, شهر وصول البعث للسلطة في سورية، والذي شهد أيضاً (خَضَّة) عنيفة للمنظومة الإستخباراتية الإسرائيلية، فقد وصلت علاقة “بن غوريون” ب “إيسير هاريل” لنقطة اللاعودة إثر تأزم العلاقات مع ألمانيا الإتحادية عقب إلقاء السلطات السويسرية القبض على عميلين للموساد إثر تهديدهما لابنة أحد العلماء الألمان المقيمين في مصر، والتي طلب “بن غوريون” إثرها من “هاريل” الوقف الفوري لنشاطه الأوروبي في تعقب العلماء الألمان ورفض “هاريل” الإمتثال للأمر وعرضه استقالته على “بن غوريون” الذي قبلها فوراً، ولم يتوقف الأمر هنا، بل طلب من “مئير عميت” عدو “هاريل” اللدود أن يخلفه في رئاسة الموساد، على أن ينقل معه للموساد وحدة أمان (188) التي تشرف على عمل “إيلي كوهين” وليحصر النشاط الإستخباري الخارجي بالموساد، على ألا تتدخل أبداً بالنشاط الإستخباري الداخلي الذي سيبقى بيد ال (شين بيت/الشاباك) بعد أن خرجت بدورها من نفوذ “إيسير هاريل”، ويتحقق حلم “إيلي كوهين” الذي سيقوده إلى (ساحة المرجة) في دمشق بعد أقل من عامين.
لم تكن بداية “عميت” مع الموساد سلسة على الإطلاق، فهو أول مدير لها من خارج صفوفها، وأول عسكري في هذا المنصب، والأهم أنه خلف مديراً غير عادي بحجم وتاريخ “إيسير هاريل”، بدلالة خروج عدد من مسؤولي الموساد احتجاجاً على استقالة “هاريل”، من ضمنهم “إسحق شامير” الذي سيصبح رئيساً للوزراء لاحقاً.
لن يحتاج “عميت” لطويل وقت ليدرك أنه في الموساد طائر في غير سربه، وأنه سيمر وقت ليس قصير قبل أن يتمكن من صنع مجده في جهاز حلم دوماً بالسيطرة عليه، ربما من هنا كان تمسكه بنشاط الوحدة 188 التي أتت معه للموساد محمولة بقضيتين أساسيتين، “إيلي كوهين” في دمشق، و “ولفجانجد لوتز” في القاهرة، اللافت أن العميلين سقطا معاً بعمليتين منفصلتين تماماً بفارق 35 يوماً، خلال أقل من عامين من تسلم “عميت” لرئاسة الموساد.
سيكون من الصعب جداً التخمين بكيفية تعامل الموساد مع ملف كوهين الذي ورثته من (أمان)، وإن كان منطقياً أنه سيكون هناك احتمالان في الأمر:
• الأول أن مسؤولي الموساد قرروا بسهولة أن معلومات كوهين ثانوية وعمومية جداً وطالبوا بإنهاء عمليته ولكن “عميت” رفض ذلك بسبب حالة عدم الثقة بينه وبين مرؤوسيه.
• والثاني هو أن الموساد أدرك لاجدوى العملية وأنها تسير في وجهة خطرة على مصير كوهين بسبب أخطائه الكارثيه، وأهمها استخدامه المفرط للراديو، ولكنهم تركوها لنهايتها لتكون فشلاً ذريعاً ل “عميت” الذي لايكنون له أي ود.
الصحافي والمؤرخ الإستخباري الإسرائيلي “يوسي ميلمان” في مقاله لل “جيروزاليم بوست” لامس الأمر تماماً عندما قال:
(( لسوء الحظ ، لم ينتبه مسؤولو حالة كوهين لعلامات التحذير ))، فهل كان فعلاً سوء حظ أم أن كوهين دفع ثمن انتقال “عميت” الإشكالي من (أمان) إلى (الموساد)؟ خصوصاً أن “ميلمان” يعود للتأكيد في المقال نفسه فيقول:
((لو كان كوهين ومشغليه الإسرائيليين أكثر حذراً ، لكانت فرص بقائه على قيد الحياة أعلى)).
لم أكن متفاجئاً على الإطلاق عندما شاهدتُ “نادية” زوجة كوهين في مقابلة تلفزيونية تتهم “مئير عميت” شخصياً بالمسؤولية عن مصير زوجها.
الأمر الأكثر إثارةً جاء أيضاً في مقال “ميلمان” وهذه المرة على لسان رئيس الموساد اللاحق في عام 2015 “تامير باردو”، عندما أخبر “نادية” أنه كان من الخطأ إعادة إيلي لمواصلة مهمته في سوريا.
مهما كان الأمر إلا أن الثابت فعلاً، وبالمتابعة الدقيقة لكل مانشر، تتضح حقيقه مهمه جداً، وهي أن قضيه كوهين برمتها كانت عبارة عن ورطة كبرى للموساد، ليست من صناعته، ولكنه سيتحمل عواقبها، لأن الأمر بالنسبة له يتعدى التزامه بحماية عملائه بغض النظر عن خلفياتهم العرقية والإثنية وحتى الدينية (فيما يتعلق بالعملاء من غير اليهود)، فهو يمس في صميم قدرته على تجنيد عملاء جدد ينتمون لهذه المجموعات هو أشد مايكون بحاجة لخدماتهم.
الأمر بتعقيداته أصبح ورطة لإسرائيل، ومن هنا كانت صناعة “أسطورة كوهين” ضرورة وحاجة ماسة لتبرر الفشل الذريع لمهمة متعثرة، من خلال إعطاء وجوده في دمشق قيمة مبالغ بها جداً وغير واقعية على الإطلاق.
اللافت جداً في الأمر هو أن هذه الأسطورة كانت من صناعة الجميع، عدى الطرفين الأساسيين الذين يملكان فعلاً المعلومات الحقيقية حولها، وهما الموساد الإسرائيلي والمخابرات العسكرية السورية، وهذا أمر طبيعي، فأي جهاز استخبارات محترف لايكشف دقائق مثل هذه الأمور، وماخلى تصريحات عمومية لبعض مسؤولي الموساد السابقين فلم ولن يتم الإفصاح فعلياً عن أية معلومات حقيقية حول هذه القضية الغامضة التي سلطت الضوء على بعض التناقضات الكبرى التي يعيشها المجتمع الإسرائيلي، النقطة التي أزعم أن مسلسل نتفلكس التقطها بعناية ومررها بذكاء ضمن الكم الهائل من البروباغاندا التي حفل بها والتي بني غالبها على فرضيات مضللة وغير دقيقة، وأحياناً خيالية لم تحصل على الإطلاق، ولكن هل كانت اسرائيل أو نتفلكس الوحيدتان المشتركتان في صناعة هذه الأسطورة الخيالية عن “إيلي كوهين”؟
الجواب بكل بساطة لا، لأن الحقيقة المؤلمة أن هناك أطراف سورية عديدة، ولأسباب مختلفة، ساهمت وبإصرار في صناعة أسطورة كوهين المستندة لكم ضئيل جداً من الحقائق، وواسع جداً من الخيالات والتخرصات، أرد ذلك لحالة التراشق البعثي-البعثي بالإتهامات، بين القطريين والقوميين، وبين القطريين أنفسهم، وبين البعثيين والإنفصاليين، وبين كل هؤلاء وجمهور سوري يملك (مخيالاً) غنياً و ثرَّاً لاينضب، الإستثناء الوحيد بين البعثيين كانت شهادة الأستاذ “مروان حبش” التي كانت فوق التراشق البعثي-البعثي والمنصفة لفريق بعثي هو خصمٌ له.
المؤسف أكثر أن حالة التراشق بالإتهامات هذه، والتي ساهمت بشدة في صناعة أسطورة “إيلي كوهين” قبل مسلسل نتفلكس بكثير، لم تكن حكراً على البعثيين أو الفرقاء السياسيين السوريين، بل استحوذت كذلك على قناعات وأقلام عديدين آخرين.
كان أمراً ملفتاً أن كاتباً دمشقياً (مرموقاً) محسوب على الخط الليبرالي وقع في نفس مطب (صناعة الأسطورة) عندما نشر كتاباً يتحدث فيه عن (الماسونية الدمشقية) اتهم فيه الرئيس الأسبق “أمين الحافظ” بالتحامل عليها (للتستر على دوره) في قضية “كوهين”… الأمر الذي ثبت نفيه بالدليل القاطع.
مسلسل نتفلكس لم يخترع أسطورة كوهين، ولكنه ساهم في ترويجها من خلال حزمة من المبالغات والخيالات التي لا تمت للواقع بصلة، ولكنه نجح أيضاً بتمرير (ومضات) مهمه تستحق التوقف عندها، بالنسبة لي على الأقل، ويبقى السؤال المهم:
هل من الممكن أن يحمل العمل الدرامي أكثر من رسالة في آنٍ معاً؟
وهل باستطاعة المخرج التنفيذي أو كاتب السيناريو تحميل العمل رسائل بعينها أو توجيهه نحو هدفٍ بعينه، قد يكون ظاهراً حيناً، ومخفياً أحياناً؟