آخر التحديثاتأبرز العناوينمقال الرأي

السعودية في اختيارها الطريق غير السهل

الاستماع للمقال صوتياً

مكّة – خاص وايتهاوس

مقال الرأي بقلم د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

هناك فراغ استراتيجي في المنطقة اتجهت السعودية نحو إشغاله، فهي التي دافعت عن البحرين في 2011 من انضمامه إلى الحظيرة الإيرانية كما سوريا ولبنان، بل قد يكون انضمامه أكثر التصاقا بإيران من لبنان والعراق، يهدد أمن السعودية والخليج. كما اتجهت السعودية لإنقاذ أكبر بلد عربي كاد ينهار ويسقط في قبضة تيار الإخوان المتعدي للحدود، وقد يكون مركزه في تركيا كما سوريا ولبنان والعراق مركزهم في إيران، مشروعان يهدفان إلى محاصرة بلاد الحرمين عبر قضم المناطق العربية المحيطة بالسعودية.

حاولت السعودية استثمار ماقدم الرئيس الأسبق ترامب في دعم التحرر من هذا الحصار من خلال مصالح اقتصادية ضخمة يتم توقيعها مع أمريكا. البداية كانت في إنهاء دعم الإرهاب في 2017 عبر تشكيل السعودية تحالفات دولية وإسلامية وعربية لقسم ظهر الإرهاب في المنطقة التي تستخدمه الدول الإقليمية لحصار السعودية وقضم المناطق العربية المحيطة بها. كان أكبر نجاح تحققه السعودية بعدما قادت عاصفة الحزم في اليمن عام 2015 لمواجهة الاتفاق النووي الذي وقعته الدول الغربية مع إيران من أجل فقط وقف الاتفاق النووي لصالح إسرائيل، لكنه مقابل أطلق يد إيران في المنطقة.

حققت السعودية عدداً من أهدافها في محاصرة إيران ووقف نفوذها عندما انسحب ترامب من الاتفاق النووي بشكل آحادي. وكان ومقتل قاسم سليماني في يناير 2020 رسالة لإيران بوجوب وقف مشروعها الإقليمي والعودة إلى سلوك الدول الطبيعية، بجانب وضع عقوبات مشددة ضد إيران، بجانب وضع الحوثيين على قائمة الإرهاب.

بمجيء بايدن تغيرت استراتيجية أمريكا، لكنها لم تعود تماما إلى استراتيجية أوباما قبل مجيء ترامب. لكن كان انسحاب أمريكا من أفغانستان والحرب الروسية في أوكرانيا، مشهدين قادا إلى إنهاء الخليج جزء من التحالف الغربي الذي ربط أمنه مع أمريكا من أجل نفط بأسعار زهيدة، خصوصا مع مجيء قيادة سعودية شابة غيرت قواعد استراتيجية الهجوم والدفاع، واستثمرت الحرب الروسية في أوكرانيا التي أعطتها جرعة وجرأة لتعزيز سيادتها وقيادتها المستقبلية من أجل ملء الفراغ الاستراتيجي، والحديث باسم العرب بعد تراجع الدور الأمريكي خصوصا في عهد بايدن الذي غير استراتيجية ترامب واتجه إلى نقل قواته نحو جنوب شرقي آسيا لمواجهة الصين، وكذلك نقل قوات أمريكا إلى تعزيز قوة الناتو في أوروبا لمواجهة روسيا.

لكن كان الاتفاق السعودي الإيراني برعاية بكين بمثابة اتفاق استراتيجي مهم بين أكبر دولتين في المنطقة السعودية وإيران اللذان يمتلكان رأسمال سياسي واقتصادي يمكن أن يؤثر في الولوج إلى أعماق المنطقة، واستجابة لمتغيرات ناتجة عن تغير جيوسياسي دولي، خصوصا وأن المنطقة اهلكت بالحروب منذ ما يسمى بالربيع العربي 2011 والغزو الأمريكي للعراق في 2003 الذي أعطاها جرعة من الأمل والجرأة والإمكانيات للتأثير على مجرى الأحداث في المنطقة بعدما أصبحت السعودية تمتلك استراتيجية واضحة المعالم حتى لو كانت التكلفة عالية الثمن في اليمن وفي لبنان وفي العراق وفي كل الدول العربية.

رغم أن أمريكا منزعجة من هذا الاتفاق بل مصدومة، لكنها غضت الطرف لأنها لا تود إرباك المنطقة حتى لا ترتفع أسعار النفط. وفي نفس الوقت حافظت على علاقات استراتيجية مع السعودية، وبشكل خاص كونها لا تود إثارة حفيظة القيادة الشابة في السعودية التي انتهجت مفاهيم جديدة. وعندما سألت صحفية بوتين في أكتوبر 2022 عن السعودية أنها تقيم علاقة وثيقة مع روسيا لإغاظة الولايات المتحدة، رد عليها بوتين بشدة ودافع عن السعودية في أنها لا تقيم علاقة مع دولة على حساب دولة أخرى بل السعودية تبحث عن تعزيز مصالحها.

السعودية ترى أنه يمكن أن يعود السلام إلى المنطقة على غرار اتفاق الجمعة العظيمة، أو اتفاق بلفاست تم التوقيع عليه سنة 1998 بين بريطانيا وجمهورية إيرلندا وأحزاب إيرلندا الشمالية، ويهدف إلى وضع حد للنزاع في صورة نهائية الذي استمر عقود من الزمن، وتحقيق التعايش السلمي بين طوائف إيرلندا الشمالية وبينها وبين جمهورية إيرلندا. أبرم الاتفاق توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق مع رئيس الوزراء الأيرلندي بيرتي أهيون وبيل كلينتون رئيس الولايات المتحدة، وزعماء الأحزاب السياسية الأربعة الرئيسية في إيرلندا الشمالية.

ورغم أن اتفاق الجمعة العظيمة جاء منقوصا وهشا، ولا يزال على هذه الحال، لكن مقارنة إيرلندا الشمالية اليوم عما كانت عليه، وكل ما تحقق، يعدّ تحولا حقيقيا. فقد صمد السلام، وتضاعف حجم الاقتصاد، وتحولت بلفاست المدينة التي اعتادت شوارعها على الأسلاك الشائكة والدوريات العسكرية إلى مدينة أوروبية مزدهرة تنعم الآن بقطاع تكنولوجي مزدهر وحياة صاخبة.

هذا الاتفاق ينطوي على دروس يمكن أن يستفاد منها في حل نزعات في اليمن وسوريا بشكل خاص، وفي السودان والعراق ولبنان. فكان مبدأ القبول لفئة كانت تصر على إيرلندا موحدة، في أن يظل الشمال جزءا من المملكة المتحدة ما دامت الأغلبية هناك راغبة في ذلك. كان هذا تنازلا كبيرا لمصلحة الاتحاديين في إيرلندا الشمالية. في المقابل وافق الاتحاديون على مبدأ المعاملة المتساوية والعادلة للطائفة القومية ذات الأغلبية الكاثوليكية الرومانية وفي نفس الوقت الاعتراف بالطموح القومي إلى وحدة أيرلندا من خلال التعاون مع الجمهورية الأيرلندية.

ولنا أيضا في رسول الله أسوة حسنة فقد أخرجه أهل مكة واضطهدوا المسلمين وجعلوهم يهاجرون إلى الحبشة في عدد من الهجرات، وطاردوا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليحاربوه، رغم ذلك وقع معهم الرسول صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية صلحا منقوصا في العام السادس من الهجرة في شهر ذي القعدة في مارس 627 م بين المسلمين وبين مشركة مكة هدنة لمدة عشر سنوات حتى أن الصحابة ومنهم الخليفة عمر بن الخطاب قال أنقبل الدنية من ديننا، فقال له الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين الزم بغرزه أنه نبي.

وكانت أول مشورة سياسية لأمرة في التاريخ الإسلامي من أم سلمة زوج الرسول صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها عندما أشارت على الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يكلم أحدا حتى ينحر بدنة ويدعو حالقه فيحلق له، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم بمشورتها فاتبعه بقية الصحابة المتضجرين، وفي فتح مكة 8 هجرية في 20 من رمضان قال لقريش كما قال يوسف عليه السلام لإخوته ( لا تثريب عليكم اليوم ) اذهبوا فانتم الطلقاء.

لذلك لن يكون سلام إلا في ظل حضور عربي بقيادة سعودية ناجحة لا تلقي بالا كثيرا لمن ينتقدها وينتقد دورها، وهي تسلك الطريق السليم وليس الأسهل.

تدرك السعودية أن العملية الناجحة أكثر ترجيحا إذا كان المشاركون فيها يتبادلون الثقة. وهي تدرك أن هناك عدد كبير من المشكلات العصية التي تنتظر الحل. ولأن سياسة كل طرف قد تسير في اتجاهات مختلفة إن لم تكن معاكسة في أحيان كثيرة، فالسعودية قادرة على إجراء محادثات مفتوحة، وصريحة، واستراتيجية، وليس من الضرورة إقامة صداقات، لكن تحرص السعودية على إقامة شراكات لمواصلة الحوارات المفتوحة الصعبة.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ الجغرافيا السياسية والاقتصادية بجامعة أم القرى بمكة [email protected]
زر الذهاب إلى الأعلى