الاتفاق النووي: كلّ يغني على ليلاه
الاستماع للمقال صوتياً
|
بسام أبو طوق
رغم الرسائل عالية النبرة التي تبادلها الطرفان الأميركي والإيراني عبر الوسيط الأوروبي إلا أن المؤشرات تدل على أن هناك تفاهمات شبه نهائية بشأن الاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس الأميركي السابق ترامب، فقد تم كسر الجمود الذي رافق المحادثات غير المباشرة بين اميركا وإيران عبر نسخة نهائية قدمها الاتحاد الأوروبي الذي يقود مقاربة سياسية لتفادي فشل مفاوضات فيينا، لاسيما مع المستجدات الجيوسياسية الناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية ومنها أزمة الطاقة التي يضعها الغرب الأوروبي في قمة أولوياته حيث إن احتياطيات الغاز الإيراني تصل نحو 34 ترليون متر مكعب أي 17.3% من إجمالي الاحتياط العالمي بالإضافة الى تزايد قلق الولايات المتحدة وحلفائها بشأن نفوذ إيران المتزايد في مضيق هرمز المصب الضيق للخليج و هو أحد أهم الطرق الاستراتيجية في العالم والذي يمر عبره عشرون بالمائة من إجمالي صادرات النفط العالمية٠
وتتلمس دول المنطقة طريقها المحفوف بالمخاطر وتبدي مرونةً وتفهماً للتطورات المتوقعة بعد ابرام الاتفاق وهي تشد ظهرهامن الناحية الأمنية والعسكرية والاقتصادية بالاتفاقيات الإبراهيمية مع إسرائيل وتتعامل إيجابياً مع أي استعداد إيراني للمساهمة بتنظيم شؤون المنطقة إقليمياً، وتبقى إسرائيل المعارض الكبر والأشرس للاتفاق النووي مهما كان شكله ومضمونه وتداعيات. ولهذا أسباب وجودية يصعب حلها ولا حلحلتها٠ وهي الآن تناور وتراقب وتعد العدة للحلول العسكرية والأمنية، وهي تعرف قدرات وتكنولوجيا إيران النووية والتي وصلت إلى مستويات متقدمة ويبقى التصعيد العسكري الإسرائيلي في هذا المجال مرتبطاً بقرار سياسي وهو يحظى باهتمام وتعاطف كل الأطراف تقريبا – ما عدا إيران طبعاً- أدى الغزو الأميركي للعراق عام 2003 إلى اختلال ميزان القوى لصالح إيران ومنحها فرصة ثمينة لتوسيع دورها ونفوذها هناك، كما تدخلت إيران في الأزمة السورية بدأً من عام 2011 وتكرر الأمر في اليمن، وهكذا فإن تدشين الاتفاق النووي عام 2015 والتخفيف الجزئي للعقوبات المصاحبة له قد سهل أنشطة إيران الإقليمية وسرّع وتيرتها٠
وفيما يبدو أن إدارة بايدن قد تنازلت عن خططها الاستراتيجية لتوقيع اتفاق طويل الأمد، وهي تسعى إلى صفقةٍ أقصر وأضعف مقابل أن تمنع إيران من الحصول على القنبلة النووية وتتفرغ لمواجهة الصين من ناحية ولتفادي حدوث أي توسع في التحالف بين طهران وموسكو وبكين من ناحية ثانية. ولم يعد الرئيس بايدن بصدد السباق المحموم لإنجاز الاتفاق النووي في الإطار الديبلوماسي قبل انتخابات التجديد النصفي المقررة في نوفمبر المقبل، بل على العكس فهو يماطل ويؤجل مخافة أن تتعالى صيحات التنديد بضعفه السياسي ضده في الحملات الانتخابية٠
أما الإيرانيون فيماطلون لتأجيل الاتفاقية الى ما بعد هذه الانتخابات لتبين موازين القوى الجديدة وللحصول على ضمانات أفضل للالتزام بالاتفاق لا تستطيع الإدارة الأميركية الحالية أن تقدمه٠
وهكذا تتراوح هذه المفاوضات بين التفاؤل والتشاؤم حسب رؤية الأطراف المختلفة لاحتمالات إبرام الاتفاق، فالمنسق الأوروبي جوزيف بوريل يصبح أقل تفاؤلاً والمفاوض الإيراني أكثر تشدداً.
وتتسابق الدعوات من نواب امريكيون، ديمقراطيين وجمهوريين، لتقييد صلاحيات الرئيس الأمريكي لإبرام اتفاق لا يرضيهم٠وتفيد التصريحات التي يطلقها المسؤولون الإيرانيون بأن طهران عادت إلى المربع الأول، وهي تولي الأهمية لأربع قضايا رئيسية هي الضمانات، ورفع العقوبات، والتحقق من ذلك، وإغلاق ملف المزاعم السياسية أي تحقيق الوكالة الدولية، ويعتقد الإيرانيون أن الفرصة سانحة لهم للحصول على تنازلات غربية بسبب الحاجة للنفط والغاز الإيراني٠
فيما يأتي تصريح المبعوث الروسي لمباحثات فيينا مسانداً لموقف إيران كالعادة ويرى أن إيران لن تقبل الثغرات والغموض٠ وفي خلفية المشهد يتسارع النشاط الإسرائيلي بزيارات مسؤوليه وآخرهم لابيد رئيس الوزراء الى أمريكا، للتحذير من إبرام اتفاق يريح الإيرانيين ليلتقطوا أنفاسهم ويواصلوا السعي بخطوات حثيثة لصنع قنبلة نووية تجمعت لديهم المصادر والخبرة والتقنية اللازمة لصنعها٠
أمام هذه اللوحة السريالية المفعمة بالاحتمالات والتي تنوس ألوانها بين الغموض والمكاشفة، وللتعامل مع الأنشطة الإيرانية المنفلتة من عقالها والمرشحة للتصاعد بعد الاتفاق الجديد المزمع عقده، تسعى العسكرية الأمريكية لابتداع خطها الموازي عبر بناء نظام متطور يعتمد ويتعاون مع دول المنطقة لمراقبة التحركات البحرية الإيرانية مهما كان التطورات والتبدلات السياسية، ومواثيق الاتفاقيات المبرمة ظاهرها وباطنها٠
وهكذا يتفاعل كل اللاعبين في المنطقة صغيرهم وكبيرهم مع الثوابت والمتحولات، حسب ما قالت العرب قديماً: كل يغني على ليلاه٠