الاستماع للمقال صوتياً
|
تنفس القادة الأوروبيون القادمون إلى قمة بروكسل الطارئة الصعداء، فقد أعادت فرنسا إنتخاب ايمانويل ماكرون رئيساً لها للأربع سنوات المقبلة، ببرنامجه الملتزم بدعم وتنشيط الاتحاد الأوروبي في مواجهة اليمينية المتطرفة مارين لوبان المناهضة لوجود فرنسا في هذا الاتحاد، والتي وإن تراجعت عن برنامجها المعلن في انتخابات 2017 بالخروج من منطقة اليورو والاتحاد الاوروبي،فهي قد استبدلته بالبقاء داخله (لإصلاحه من الداخل)، وكانت تدعو لتأكيد أفضلية القانون الوطني على القانون الأوروبي، والذي يعتبره منتقديها مشروع فريكست معادل للبريكست البريطاني.
ورغم أن فترة الستة أشهر لرئاسة فرنسا الدورية للاتحاد الأوروبي يناير – يونيو 2022 قاربت على الانتهاء، ولكن يبقى ماكرون أبرز القادة المؤثرين للاتحاد للسنوات الأربع القادمة. فالملفات التي تواجه قادة الإتحاد الأوروبي شائكة ومعقدة، وأبرزها الغزو الروسي لأوكرانيا، توريد النفط والغاز، الأمن والدفاع الأوروبي، الاتفاقية الخضراء الأوروبية، وأخيراً وليس آخراً تنشيط الإتحاد الأوروبي وإضافة دول جديدة.
لا يزال أمام ماكرون تحقيق نتائج جيدة في الانتخابات التشريعية 12 و19 يونيو، ولكن حتى لو تقدم يساريو لانشون أو شعبويو لوبان، وحصل أحدهم على الأكثرية وحق تشكيل الحكومة وهو السيناريو الأسوأ في مواجهة ماكرون، فإن الدستور الفرنسي ينص على أن الرئيس هو القائد العام للقوات المسلحة ويعطى صلاحية السياسة الخارجية والدفاع ويترك لرئيس الوزراء الجديد صلاحية العمل في السياسة الداخلية والتنفيذية. وحتى هذه تتم بالمشاركة مع الرئيس، وهو ما أُصطلح عليه في الفكر السياسي الفرنسي بمفهوم التعايش بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء وقد حصل هذا في التاريخ الفرنسي ثلاث مرات.في العقود الثلاثة الممتدة بين 1980 و2010.
إذاً فقد تم الأمر، وها هو ماكرون بعد تجديد البيعة له (حسب المصطلح المشرقي) يتوجه مباشرة إلى قمة بروكسل، مفعماً بالنشاط المتجدد، محملاً بالمقترحات المفاجئة، حول إصلاح وتفعيل تكتل الاتحاد الأوروبي وإنشاء منظمة سياسية اوروبية، تشكل الدائرة الأوسع والأكثر مرونة من دائرة الإتحاد الأوروبي، وعل رأس أهدافه تجاوز التعقيدات الإجرائية و إلحاق أوكرانيا بشكل أسرع بأوروبا, فمعاناتها الناشئة عن الغزو الروسي لا تحتمل ترف الانتظار. والعنصر الثاني في الأهمية لعودة ماكرون إلى الساحة الأوروبية بتفويض فرنسي متجدد، هو الوضع الحالي للثنائي الألماني الفرنسي الذي يقود القاطرة الأوروبية، حيث يتردد الشريك الألماني في هذه الثنائية، ولأسباب اقتصادية وجيوسياسية، عن الانخراط بدور أكبر في مواجهة الاندفاع الروسي واختراقه للخاصرة الرخوة لأوروبا في شرقها.
تعاني ألمانيا حاضراً من الفراغ القيادي الناشئ عن تقاعد أنجيلكا ميركل وتسلم شولتز لدفة الحكم، بدعم من تحالفٍ غير متماسك مع الخضر والديمقراطيين الأحرار، ومايزال أمام شولتز الكثير ليبني كاريزماه الخاصة كقائد ألماني جديد، وهذا إذا استطاع! وفي هذا السياق فقد تقلص وزن ألمانيا في هذه الثنائية وعلى فرنسا ماكرون أن تعوض هذا الاختلال في الأوزان والأدوار.
العنصر الثالث والذي ازدادت أهميته أيضاً في مواجهة مستجدات الأمن والدفاع الأوروبي أمام التوغل الروسي في أوكرانيا، هو كون فرنسا الدولة النووية الوحيدة في أوروبا بعد بريكست بريطانيا التي يعتمد عليها لموازنة التفوق النووي الروسي.
في المقلب الآخر، فإن الغزو الروسي لأوكرانيا والصمود الأوكراني في مواجهته، بدأ بنقل هذه الحرب من محلية إلى إقليمية وقد تغدو عالمية. فبوتين الذي فشلت تطلعاته إلى حربٍ خاطفة تنتهي بإسقاط حكومة زيلينسكي وتعيين حكومة مؤيدة له، قد بدأ يتحضر لحرب استنزاف طويلة الأمد، تنذر بمخاطر جمّة على الغرب الأوروبي الطامح إلى الاستقرار والآمان بعد لوعته بحربين عالميتين لم تبق ولم تذر.
فالتكتيك الروسي الجديد المتمثل في تهديد سلاسل إمدادات الغذاء العالمية عبر حصار الموانئ الأوكرانية، وحظر الغاز الروسي على دول شرق أوروبا رداً على عقوبات ودعوات المقاطعة الأوروبية، هو عض متبادل على الأصابع، قد تتحمله دول عظمى ولكن شرق ووسط أوروبا لا يتحمل.
وفي بروكسل لوّح ماكرون والقادة الأوروبيون بعصا المزيد من العقوبات على روسيا، ولكن ماكرون يمد الجزرة للروسي الغاضب، بالدعوة لاتفاق بشأن صادرات المواد الغذائية الأوكرانية ورفع الحصار عن ميناء أوديسا، بموجب قرار أممي يوفر إطار لانفراج مرحلي. وهكذا تتم موازنة العقوبات الغربية القاسية مع الحلول لتوريدات الغذاء العالمي, وتحيلها إلى مفاوضات وتسويات، بعيداً عن شرارات الحرب المستعرة.
يعوض ماكرون بنشاطاته الدبلوماسية، ومتابعته الدؤوبة للملفات العالقة، ومقترحاته المثيرة للجدل، وحواراته مع بوتين وأردوغان، عن الحضور المتراخي للرئيس الأميركي بايدن، ويترك له ممارسة اللعبة الأميركية في تقديم المعونات والأسلحة والحرب بالوكالة.
ومن قمة بروكسل الأوروبية، سينتقل ماكرون إلى قمة الدول السبع الصناعية العالمية في إيطاليا، حيث سيخوض في ميدان آخر هو التكامل بين محلية القارة الأوروبية وعالمية الدول الصناعية الكبرى، ولقاءاته بالزعماء العالميين ستتكلل بلقاء مع بايدن، وسيضع النقاط على الحروف حول الدور الأميركي والدور الأوروبي لإدارة هذه الأزمة المستجدة والمتمثلة في الحرب الروسية الأوكرانية، والتي تتحول من محلية إلى إقليمية بل وأخطر، وبها ومعها تتغير وتتعدل ملفات توريدات النفط والغاز والغذاء العالمي والطاقة البديلة.