الاستماع للمقال صوتياً
|
النهار العربي/ وايتهاوس ان أرابيك
مع كل أزمة جديدة يعيشها العالم، نجد أنفسنا نحن العرب –دون إرادة منا في معظم الأحيان− وقد وقعنا ضحية لتلك الأزمة قبل غيرنا، هذا الحال لم يتغير منذ ما يفوق قرناً من الزمن.. حروب ساخنة وباردة، أزمات سياسية او اقتصادية شرقاً أو غرباً كل بضع سنوات، تنتهي جميعها بفاتورة ضخمة يدفعها العرب، فهل السبب ضعفٌ دائم وخللٌ غير قابل للإصلاح في الوعي السياسي للأنظمة التي توالت على حكم البلاد العربية منذ بداية القرن العشرين، أم هي رهانات خاطئة وتحالفات ومواثيق في غير مكانها ومع غير أهلها؟
واليوم.. ونحن أمام أزمة تهدد برسم خارطة سياسية عالمية جديدة، هل سيعود العرب فيتجرعوا خيبات مريرة جديدة، ويستمر التاريخ في صفعاته.. أم لعلنا سنستفيد من تجاربنا الماضية، وسننحاز لخياراتنا الأقل كلفة والأكثر نفعاً هذه المرة؟ هذا سؤال يستحق منا اليوم إعمال الفكر حوله وتقليب النظر فيه!
بداية.. ربما ينفع التذكير بجزء من تلك التجارب والخيبات التي عشناها في منطقتنا العربية، فحين بدأت الإمبراطورية العثمانية بالضعف والترهل مع بداية القرن العشرين، ولاحت في الأفق بارقة الأمل الأولى للتحرر من هذا الاحتلال، وتعالت أصوات دعوات المقاومة مع امتداد الشعور القومي العربي، جاء الرد العثماني الأول بإعدام عدد من المناضلين في سوريا ولبنان في 6 أيار (مايو) 1916 وأصبح هذا التاريخ عيداً للشهداء تستذكره الدولتان في كل عام.
حين وصل خبر الإعدام للأمير فيصل بن الشريف حسين ألقى كوفيته على الأرض وصاح بصوت عال: (طاب الموت يا عرب)، وكانت تلك الصيحة بداية التحرر من الهيمنة العثمانية، لكنها انتهت للأسف إلى خيبة أمل كبيرة تجلّت في تقسيم الدولة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى عام 1918، ووقوع الأراضي العربية التي عُدّت “تركة عثمانية” تحت الانتداب الفرنسي والبريطاني والإيطالي بموجب اتفاقية “سايكس بيكو” التي مثلّت كبرى خيبات العرب، حين أخرجتهم “من تحت الدلف إلى تحت المزراب” حسب تعبير المثل السوري/اللبناني الشائع.
منع هذا التقسيم الدول المتشكلة حديثاً من استكمال بناء أسسها، كما ترك العرب في حالة من الضعف الدائم الذي فرض عليهم الاستنجاد بالقوى العظمى في كلّ ملمة تعصف بهم أو من حولهم، وهكذا وجدوا أنفسهم خلال الحرب الباردة منتصف القرن العشرين، وحتى بعد استقلالهم، ضحية للتجاذبات بين المعسكرين الشرقي (الاتحاد السوفيتي) والغربي (أميركا وأوروبا)، تكررت هذه التبعية للمعسكرين بأشكال مختلفة منذ ذلك الحين، معمقة الشرخ بين الدول العربية وتاركة العرب ضحية أولى في كل خلاف ينشب بين الطرفين العظيمين، فلا يجنون من كلّ صراع سوى خيبة جديدة تضاف إلى سابقاتها وتمهدّ للقادمة، فيزداد ضعفهم السياسي والاقتصادي، ويترسخ انقسامهم وضياع قضاياهم، وشعوبهم بالنتيجة.
تتحمل أغلب الأنظمة والحكومات العربية التي تتالت على بلدان المنطقة جزءاً كبيراً من مسؤولية ترسيخ هذه التبعية وربط مصير دولها بقرارات وإرادات تلك القوى والأطراف الخارجية، ولم تستطع هذه الأنظمة، باستثناء مرات نادرة، أن تقدم نفسها محركاً رئيسياً ورقماً مهماً في تتالي الأحداث الكبرى حولها، أو حتى تلك التي تخصها، بل تحولت القرارات السياسية الداخلية لمعظم الدول العربية على يد أنظمتها الحاكمة، إلى صناعة واقع يتماشى بالدرجة الأولى مع مشاريع ومصالح القوى الخارجية، وتحولت أراضٍ عربية إلى ساحات ترتع فيها جماعات وجهات تعمل لصالح دولة توسعية ما، وسلبت الدول العربية الإرادة السياسية إلى أجل غير مسمى.
وها هو العالم يعيش اليوم أزمة جديدة وتسوده حالة انقسام وتخبط منذ إعلان الرئيس الروسي الحرب على أوكرانيا نهاية شهر شباط (فبراير) الفائت، ومرة أخرى تجد الدول العربية نفسها وسط صراع نفوذ ومصالح بين الشرق والغرب، بسبب موقعها الجغرافي وارتباطاتها الاستراتيجية مع هذا الطرف أو ذاك، وتبعاً لذلك تسود الحكومات العربية حالة من التوجس، مع عدم قدرة معظمها على اتخاذ موقف سلبي ضدّ ما يقوم به بوتين، فتنظر من جهة بعين القلق نحو إيران التي تتحضر لتوقيع الاتفاق النووي الذي سيتيح لها المضي بمشاريعها التوسعية في المنطقة، ومن جهة أخرى إلى أميركا التي لم يعد سلوكها في المنطقة يوحي بالثقة بعد الآن.
إذن، يفرض الوضع الحالي علينا تحديات عدة تستلزم استنفاراً سياسياً عالي المستوى من الجميع، إذ لم يعد من المقبول الانجرار وراء أي من الأطراف الدولية دون الانطلاق من مصلحتنا الذاتية أولاً، وليس المقصود هنا المصلحة الفردية لكل دولة على حدة، فقد أثبتت التجارب فشل هذه السياسة، ومهما بلغت الانقسامات والتباعد بين الأنظمة، لا يزال الجيوبوليتيكا يفرض شروطه بقوة، فيجعل لكلّ عاصفة تحلّ بإحدى دول المنطقة، آثارها وارتداداتها على جاراتها عاجلاً أم آجلاً، لتترك على الجميع أثاراً تدميرية لم يعد من الممكن التكهن بها والاستعداد لدرء مخاطرها.
إن الحرب الروسية على أوكرانيا تضع معظم دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أمام احتمالات أزمة غذائية، سببها نقص المنتجات الأساسية، وعلى رأسها القمح والشعير اللذان تشير تقارير إلى أن ثلث ما يستورده العرب منهما يأتي من طرفي النزاع الأساسين: روسيا وأوكرانيا، وعليهما تعتمد دول عدة، مثل ليبيا ومصر والجزائر، لتأمين نصف احتياجها من القمح، وهو ما يرفع احتمال حدوث ما تصفه تقارير أممية بـ “كابوس غذائي” عام 2023 في حال استمرت الحرب مدة أطول، ما من شأنه التمهيد لأشكال جديدة من الاضطراب وعدم الاستقرار السياسي تضاف إلى ما تعانيه معظم الدول العربية أصلاً.
هذا من جهة الاقتصاد والأمن الغذائي، أما سياسياً فقد ولدت الأزمة الأوكرانية حالة من الاستقطاب الشديد في العالم، واتخذ الغرب خطوات بالغة التشدد حيال روسيا، ومن غير المستبعد أن يتم اتخاذ خطوات مماثلة حيال كل من يقف في صفها، إذ من الواضح أن الرئيس جو بايدن مصرٌّ على أن كل من لا يقف مع أميركا اليوم فهو ضدها.. لكن العرب لم يصلوا بعد إلى المكان الذي يستطيعون فيه أن يقفوا “ضدَّ” أميركا بالصيغة التي طرحها بايدن، وهم في الوقت نفسه عرضة للكثير من الأخطار إذا ما وقفوا معها، خاصة وأنها لا تبذل الكافي من الجهود لمساندتهم وتدعيم مواقفهم وحفظ مصالحهم حتى في الشرق الأوسط نفسه. على سبيل المثال، إذا عمدت الدول العربية −النفطية منها− إلى زيادة مستويات إنتاجها من النفط بحسب قرارات أوبك الجديدة بهدف تغطية العجز الحاصل نتيجة المقاطعة الغربية لروسيا، فهل تستطيع أميركا أن تحمي العرب من أي ردات فعل انتقامية تقوم بها موسكو؟ هل يمكن أن تمنعها مثلاً من التوسع في دعم إيران بالمقابل، لتزيد بدورها من تدخلاتها في العديد من البلدان العربية، وتقدم المزيد من الدعم لوكلائها من مليشيات في لبنان والحوثيين في اليمن والفصائل الأخرى في العراق وغيرها من دول المنطقة؟ هل يدرك الأميركيون مقدار ما سيتكبده العرب من خسائر، وما سيصيب استقرارهم غير المكين من توتر وفوضى حين يدعموا أمريكا؟ ثم هل يتوجب أن يكون ذلك كله بغير مقابل؟
إذا ما قارنا موقف الولايات المتحدة اليوم من الاعتداء الذي تتعرض له أوكرانيا، بمواقفها من الاعتداءات الكثيرة التي تعرضت لها الدول العربية على امتداد العقد الماضي خصوصاً، لا يمكننا القول إلا أن أميركا لا ترى في العرب حلفاء أو حتى أصدقاء حقيقيين، بل مجرد مستودعات للنفط ومساحات للمناورة تلجأ إليها وقت تريد، فقد تركتهم −وما تزال− في مرمى صواريخ إيران والمليشيات التابعة لها، وقد وصلت الصواريخ الحوثية إلى الرياض وأبوظبي، دون أن تشعر واشنطن أن عليها التحرك أو حتى التصريح بالتنديد والاستنكار، وما يزال الحوثيون خارج قائمة الإرهاب الأميركية، وما تزال التنازلات الغربية تُقدَم لإيران بغية إعادتها إلى الاتفاق النووي، حتى ان الحرس الثوري الإيراني سوف يخرج من القائمة السوداء!
يبدو أن أميركا تنظر إلى حلفائها في المنطقة وتصنفهم من الدرجة الثانية ولا ترتبط بأي اعتبارات تتعلق بوزنهم الجيوسياسي، وليس هذا بالأمر غير المقبول في العلاقات الدولية فحسب، بل ولا يخلو -في حسابات أخرى- من تعدد المكاييل! فإذا كانت الولايات المتحدة قد تخلت عن العرب، وخاصة عن الحلفاء منهم، فكيف يمكن أن تطالبهم اليوم بالوقوف إلى جانبها بشكل تام ومطلق، والقيام بما يقتضيه ذلك من إدانة صريحة لموسكو والاستجابة لمجموعة من المطالب التي تدعمها! أليس هذا يعني في الوقت ذاته معاداة روسيا، وربما يستتبع ذلك معاداة الصين أيضاً، رغم أن الأخيرة قد تكون في المدى القصير المقبل شريكاً اقتصادياً مهماً للدول العربية، سواء الغنية منها والفقيرة أيضاً. ومع ذلك، لا تخلو هذه المطالب الأميركية أحياناً من املاءات حيال دول الشرق الأوسط، ظهرت في الكثير من المناسبات والتجارب، فقد غادرت أميركا كل البلاد التي دخلتها وتركتها لمصيرها مثل العراق وأفغانستان، ودعمت “الإخوان المسلمين” في السنوات الأولى التي تلت أحداث ما يسمى بـ “الربيع العربي” (كما في مصر). ومازالت إلى اليوم تضع ما يشبه الفيتو على عودة سوريا إلى حاضنتها العربية… وغيرها الكثير من الأمثلة.
وفي هذا السياق أيضاً، أريد العودة للتركيز على المشكلة الإيرانية مرة أخرى، إذ رغم اعتماد غالبية الحكومات العربية موقف الحياد بين الطرفين الروسي والغربي في الأزمة الأوكرانية، والذي يراه القادة العرب الأقرب لخدمة مصالح دولهم وأمن شعوبهم، والأضمن لدفع الضغوطات عنهم من المحورين، إلا أن ما يهدد مصالحهم في هذا الحياد الإيجابي هو تصاعد القوة الإيرانية التي بُنيت طوال سنوات من رفض طهران للقوانين والمواثيق والقرارات الدولية، وها هي إيران تعود اليوم بقوة المنتصر بعد المفاوضات النووية التي ستحررها مما تبقى من القيود وتطلق يدها في كثير من ملفات الشرق الأوسط، فتتسبب في إعاقة مشاريع هنا، وتأليب صراع هناك، وتهديد الاستقرار في مناطق ثالثة، وتكريس ذلك كله في سبيل تحقيق مطامعها التوسعية القديمة، وليس أدل على ذلك من اعتراضها مؤخراً على الاتفاق الذي انتهت إليه السعودية والكويت في الحادي والعشرين من آذار (مارس) حول تطوير حقل الدرة للغاز الطبيعي، حيث يدعي الإيرانيون أن لهم حصة في هذا الحقل. وتأتي أزمة هذا الادعاء غير المحق في ظل تصاعد حدة التوتر بين طهران وأغلب عواصم مجلس التعاون الخليجي، وعلى خلفية ملفات عدة أهمها الملف اليمني، ناهيك عن الظرف الدولي الذي أدى للأزمة العالمية التي يشهدها مجال الطاقة نتيجة الحرب الأوكرانية.
لذلك، وبناء على التأكيد أن الفرص إنما تولد من قلب الأزمات، وحيث أن العرب اليوم ليسوا بين المطرقة الأميركية والسندان الروسي فحسب، بل يُضاف لذلك وقوع مصالحهم واستقرار بلادهم تحت المنشار الإيراني الذي لن يتردد في تفكك وإضعاف كل ما يمكن أن يصل إليه من الدول العربية، وتحقيق ما يستطيعه من الانقسام والاقتتال الطائفي، فعلى العرب في المقابل أن يسعوا لاجتراح الفرص التي توازي حجم هذه الأزمات والمعيقات المحيطة بهم من كل جانب.
إذن، ورغم ما عاناه العرب تاريخياً من خيبات الأمل التي تسبب بها التدخل الخارجي واستعلاء القوى الكبرى، بالإضافة إلى التغول والتدخلات السافرة للقوى الإقليمية في شؤونهم، وغيرها. ثمة اليوم فرصة سانحة ليختلف هذا الوضع كله، خاصة وأن العالم يشهد مرحلة انتقالية وحاسمة، يتم فيها الآن خلط كافة الأوراق السياسية إيذاناً ببدء توزيع جديد بالكامل للنفوذ والتحالفات والاصطفافات. بالإضافة لذلك، فالعلاقات الدولية القديمة، والقائمة حالياً، هي اليوم أيضاً محل إعادة تفكير وتقييم، وصولاً إلى التغيير، وليس العرب استثناءً من هذا التغيير، لكن ما يُخشى منه أنهم ما زالوا لا يبذلون الجهد المطلوب بذله في سبيل حماية أنفسهم وضمان حقوقهم وتعزيز قوتهم في الإقليم. ورغم ذلك فالنوايا متوافرة لخوض هذا الأمر، وقد شهدنا في الأيام الأخيرة حراكاً دبلوماسياً واسعاً وشاملاً تضمن العديد من الدول العربية مثل الإمارات والسعودية −الأكثر نشاطاً− ومصر وسوريا والأردن والعراق، وإسرائيل أيضاً.
توحي تحركات هذه الدول، وموقفها من الحرب الروسية على أوكرانيا، بأنها متنبهة إلى ضرورة عدم الوقوع في مسلسل الأخطاء السابق ذاته، وسيجنبها الحذر البراغماتي تبني مواقف أية دولة كبرى دون تفكير وتمحيص، ودون الحصول على الضمانات التي تحفظ مصالحها وتدعمها، وربما على المغريات أيضاً. وامام هذا الرفض العربي، على أميركا ان تؤسس لعلاقات جديدة مع العرب قائمة على المصالح المتبادلة. ولا أظن الدول العربية اليوم بصدد إهدار الفرصة التي تقدمها هذه المواجهة غير المسبوقة بين روسيا والغرب..
بالإضافة إلى ذلك، فإني أستبعد أن يكون القصد من الحراك الدبلوماسي العربي حالياً هو قرع طبول الحرب في المنطقة، بل على العكس، إنه نوع من الاستعداد لنتائج ما يحصل على الصعيد العالمي، ولاحتمالات ما بعد عودة إيران إلى الاتفاق النووي، وللتنبه إلى ما قد يمنحها ذلك من القوة على الصعيدين الاقتصادي والعسكري، وبالتالي السياسي وهو الأهم، فتوحيد الموقف الإقليمي العربي في مواجهة التهديد الإيراني لا يقتصر على الاستعداد العسكري، بل على العكس، سيبقى الخيار الدبلوماسي هو الأول والأسبق والمفضل، وستكون الأيدي العربية ممدودة لإيران، لكنها لن تكون فرادى هذه المرة، بل موحدة ومجتمعة على رؤية واضحة للسلام في المنطقة، وعلى موقف ثابت من كل العوامل المؤثرة في مستقبل دولها وشعوبها، سلباً أم إيجاباً.
إذن… وفي العلاقات الدولية كما الإقليمية، أجد أن الدول العربية التي اختارت الخط الثالث بين الأول الروسي والثاني الغربي، لن تتخلى عن عدم انحيازها الذي يخدم مصالحها أولاً، وربما يخدم إمكانية توسطها وإيجاد حل للأزمة الدولية المستعرة، ومع أن هذا موقف لا يُحسد العرب عليه من جهة الصعوبات والتحديات، لكنهم يتشاركون هذا الموقف مع معظم دول العالم، غير أن ما يميز العرب في هذا الصدد هو المجال الواسع المتاح لهم للحركة والمناورة، وإذا ما استطاعوا الاستفادة منه ستنقلب كل التهديدات التي تحيط بهم إلى فرص، وستستحيل خيباتهم بعد انتظار طويل إلى مستقبل مشرق وآمن.