الاستماع للمقال صوتياً
|
في شارع Ringstrasse يقع الفندق الكبير، حيث المقر المبهج والأنيق للدبلوماسية النووية مع إيران. ومع ذلك، لم توفر هذه البهجة حظا كبيرا للدبلوماسيين المنخرطين في مباحثات الملف النووي. فهذا الفندق الفخم في فيينا ليس ثريا بالزخارف فحسب، بل بالكثير من الحكايات، عن أرواح العاشقين الذين قضوا بعد مغامرات الحب والثروة الفاشلة، لتبقى أرواحهم تجول في أروقة الفندق. فرغم من كل الحديث الإيجابي الذي لا يزال ينبعث من فيينا، ثمة شكوك كبيرة بشأن مصيرها، بعد أن صارت احتمالات فشلها آخذة في التصاعد بشكل متسارع، لتصبح العملية بأسرها معلقة على حبال في كف عفاريت الفندق الكبير.
ساد لفترة ما وهم الدبلوماسية الأمريكية بإمكانية العودة السهلة للاتفاق بحسب شروطه الأصلية، إلا أنه تبين أن مياها كثيرة جرت وغيرت من حيثيات المفاوضات ذاتها. ذلك ان إيران اختارت ان تخترق، في هذه الفترة، العديد من أحكام التفتيش الصارمة الخاصة، مثل حظرها تركيب الكاميرات في المواقع النووية لفترات معينة، بل هي تلمح حاليا لاحتمال حذف بيانات الكاميرات الموجودة. وردا على العقوبات الأمريكية انتهكت إيران أحكام الصفقة وبخاصة تسريع اختبار أجهزة الطرد المركزي المتقدمة ومراكمة اليورانيوم الصلب المخصب.
وتقدر الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن إيران أنتجت أكثر من 3000 كجم من اليورانيوم المخصب بنسبة نقاء تصل إلى 5٪ على الأقل، بما يكفي لعدة قنابل في حال تخصيبها. كما يتم الآن إثراء أكثر من 70 كجم إلى ما يزيد عن 20٪، وهو ما يشكل معظم الطريق للوصول إلى درجة اليورانيوم القابل للتذخير.
الأخطر من ذلك هو ان إيران التي شغلت أجهزة الطرد المركزي المتقدمة قد صنعت خام اليورانيوم الصلب (الخام الصلب هو المستخدم في المفاعلات أو القنابل، على عكس المركب الغازي المستخدم أثناء الإثراء)، تلك المرحلة التي كانت الاتفاقيات تفترض أن يتم تأجيلها إلى سنوات لاحقة أصلا.
يرى المراقبون أنه في حين لم توجه بعد الضربة القاضية للمفاوضات، فإنها تتدحرج بتسارع، لتخسر فرصها بالنقاط، وليصبح أمل طهران في حمل الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين على توقيع اتفاق، بدافع معالجة عجز إمدادات الطاقة، أملا غير واقعي على نحو متزايد.
تصطدم المناقشات الحالية بجدار صلب، حيث يمنع الموقف الإيراني في العديد من القضايا الرئيسية المزيد من التقدم. فمنذ بدء المفاوضات الأخيرة قبل أكثر من عام، انخرطت طهران بنشاط في إيجاد طرق مستجدة للحصول على تكنولوجيا الأسلحة النووية بما فيها التخصيب الصلب، الأمر الذي يضع شكوكا كبيرة حول مقاصدها من البرنامج النووي. ولا تبدو الحكومة المتشددة الجديدة للرئيس رئيسي، المدعومة بالكامل من الحرس الثوري الإسلامي، تلك القوة العسكرية المتطرفة التي تحكم إيران، مستعدة للتراجع على الإطلاق.
وفي حين تريد أمريكا الآن أن توافق إيران على محادثات متابعة من شأنها ليس فقط تمديد أحكام الصفقة، ولكن أيضا تغطية قضايا مثل الصواريخ الباليستية الإيرانية، ودعم الجماعات المسلحة في المنطقة، فإن إيران تصر على أنه لا يمكن توقيع اتفاق جديد وفقا لإيران إذا لم يتم رفع العقوبات عن الحرس الثوري الإيراني، الأمر الذي سيعني عمليا إعطاء إيران بطاقة بيضاء للاندفاع في توسعها الإقليمي وزعزعة الاستقرار في الإقليم ضد حلفاء الولايات المتحدة. وفي هذا السياق يقول الرئيس رئيسي أن هذه الأمور “غير قابلة للتفاوض”.
وبالتالي فإن المأزق الخطير يكمن في حقيقة ان إيران مصممة على التوسع الاقليمي، ليس فقط تحت ستار نشاطها النووي المطرد، بل هي تقلص عمليا الوقت الذي سيستغرقه بناء قنبلة، في حين تدعم توسعها الإقليمي بالمزيد من التهديد بصنع قنبلة.
يشكل رفع العقوبات عن الحرس الثوري منطقة محظورة بالنسبة للرئيس الأمريكي بايدن، لأنه لا يملك الدعم الكافي لوضع هذا الأمر أمام الكونغرس. فإزالة الحرس الثوري الإيراني من قائمة المنظمات الإرهابية لا يعارضه فقط غالبية الديمقراطيين والجمهوريين الأمريكيين في مجلس النواب، ولكن أيضا في مجلس الشيوخ.
وفي الوقت نفسه، سيؤدي ذلك، إن حصل، إلى أزمة عميقة بين إدارة بايدن مع الحلفاء الإقليميين للولايات المتحدة بدءً بإسرائيل ودول الخليج، مثل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، ومن ثم مع مصر والمغرب والعديد من دول الإقليم أيضا. هذا في حين يناقش العرب والإسرائيليون علنا تحالفا عسكريا مناهضا لإيران، والذي يمكن استخدامه كثقل جيوسياسي موازن ضد أي تحركات أمريكية أو أوروبية موالية لإيران.
وبالفعل، اعترف المسؤولون الإيرانيون مؤخرا بالفشل المحتمل. حيث ذكر أحدهم هذا الأسبوع أن “الاتفاق موجود في غرفة العناية المشددة”.
إن الاتفاق الحالي مبني على أساس ضعيف، لا يتضمن قيودا أكثر صرامة على برنامج إيران النووي، ولكن أيضا لا يأخذ في الاعتبار القدرات المتنامية للصواريخ الإيرانية، ودعمها المستمر للقوات الوكيلة المناهضة للغرب ولإسرائيل وللعرب. ولقد تورطت هذه القوات جميعا في أعمال عسكرية أو إرهابية ضد أهداف غربية أو بنية تحتية عربية. كما أن الدعم المباشر المستمر من إيران للعدوان العسكري الروسي في أوكرانيا اصبح يدخل في الحساب بشكل جوهري.
الآن نجد من الصعب جدا على بالنسبة للولايات المتحدة لا يمكن توقيع اتفاق نووي حقيقي، من دون معالجة الدور المستقبلي لإيران في الشرق الأوسط. وتتوهم إيران، أن لديها فرصة سانحة للحصول على تنازل اوربي للاستفادة من أزمة أسواق الطاقة. لكن الإدارة الأمريكية تدرك أن حكومة رئيسي، تتمرتس بشكل متزايد مع حلفائها الرئيسيين في روسيا (سوريا والعراق وليبيا) والصين، حيث تشغل الصين موقعها كأكبر شريك اقتصادي للنظام في طهران، واستثمرت حوالي 26.5 مليار دولار في عام 2020.
كما تدعم الصين النظام الإيراني بشكل حثيث. وتمثل صادرات إيران للصين كامل صادرات النفط الإيرانية تقريبا في الوقت الحاضر. حيث ذكر تقرير صدر مؤخرا أن طهران تصدر حوالي 829,260 برميل يوميا من النفط إلى الصين عبر ما يسمى ب “أسطول الأشباح”.
ومنذ تنصيب الرئيس الأمريكي بايدن، باعت إيران ما قيمته نحو 22 مليار دولار من النفط الخام إلى بكين.
ويلقي المنتقدون في واشنطن باللوم على نظام بايدن الضعيف في تنفيذ العقوبات في استمرار هذه الصادرات النفطية السرية. بالنسبة لطهران، فإن المرونة الحالية في واشنطن هي هدية مرحب بها حيث لا تزال إيران تتلقى حوالي المليارات التي تشتد الحاجة إليها لدعم اقتصادها وتعزيز وكلائها. وفي حين اعترفت وزارة الخارجية الأمريكية بأن الصين تستورد النفط الإيراني غير القانوني، لكنها حاولت دحض حجة أن العقوبات الأمريكية ضعيفة أو لا تعمل على الإطلاق.
أما طهران فإنها ترى أن الأمل الوحيد في الوقت الحاضر هو أن تذعن بعض الحكومات الأوروبية وللاتفاق بشكل منفرد مع إيران. بل إنها تراهن انه في حال تفاقمت أزمة الطاقة في القارة الأوروبية، فإن بعض الدول الأوروبية ستكون على استعداد للخروج من حظيرة التعاون الحالية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. وفي خطوة للاستفادة من الطلب المتزايد على الخام غير الروسي، رفعت طهران أسعار بيع النفط الخام للمشترين الآسيويين.
مجمل هذه الأوضاع تخفض بشكل كبير المكاسب التي يمكن لإدارة بايدن ان تراهن عليها في حال إنجاز الاتفاق النووي الجديد. هذا الاتفاق الذي سيكون، في كل الأحوال، أضعف من الاتفاق الأصلي.
ولا يبدو أن إدارة بايدن جاهزة لمغامرة من هذا القبيل، بل حقيقة الأمر هي أن الأجواء الفاخرة التي يغرق بها المفاوضون في الفندق الكبير في فيينا، قد فشلت في تغيير مصير هذه المغامرة التي تبدو يوما بعد يوم شبه مستحيلة.