آخر التحديثاتثقافاتمقال الرأي

الفن في مواجهة الكراهية

الاستماع للمقال صوتياً

القاهرة – ثقافات

بقلم أحمد المسيري

تُعد السينما لغة تستطيع تجاوز الحواجز الثقافية واللغوية، كما أن المشهد قد يكون أكثر تأثيراً من الخطاب السياسي، ورغم أن الهدف الأساسي للسينما هو الترفيه ولكنها تخطت ذلك فأصبحت أداة سياسية تُستخدم في التأثير الجمعي، فالسينما مرآة تعكس صراعات الإنسان وتُلقي الضوء على تساؤلاته الإنسانية العميقة.

بعد الحرب العالمية الثانية تأكدت الولايات المتحدة الأمريكية أن من يملك الصورة يملك الحكاية، ومن يملك الحكاية يملك العقول، مما أدى إلى اهتمامها بالسينما، وتوسيع نفوذ هوليوود، التي كانت من أبرز الوسائل التي أسهمت تدريجياً في تعزيز نفوذ الولايات المتحدة لاحقاً، وخلال الحرب الباردة لم يكن الصراع بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية صراعاً عسكرياً على قدر ما كان صراعاً أيديولوجياً، تم توظيف الأفلام فيه كسلاح ناعم لترويج الأيديولوجيات وتبرير السياسات، فكانت الأفلام الأمريكية تقدم الحرية كقيمة عليا ومطلقة، بجانب تقديم نفسها كشرطي للعالم، فيما ركزت السينما السوفيتية على تجسيد النضال الجمعي كرمزية للعدالة، وفي الحالتين كانت تُستخدم السينما كأحد أهم أدوات القوة الناعمة التي تؤثر على السياسة من خلف الستار، وكانت الأفلام تستخدم في خلق الصورة النمطية وتحديد العدو وبناء الحليف على مستوى الوعي الجمعي قبل الواقع.

وفي ظل هذه الصراعات وتوظيف السينما كسلاح، يظل لها وجه آخر أكثر إشراقاً وصدقاً، هذا الوجه الذي يبحث في جوهر الإنسان، وتتحول فيه السينما من وسيلة للهيمنة إلى جسرٍ للتواصل والحوار، فالسينما لغة عالمية تتجاوز اللغة المنطوقة، لغة تستطيع أن تجسد السلام في مواجهة التطرف، وتذكرنا أن الخلاف لا يلغي المشتركات.

سينما ترى الإنسان قبل الصراع
منذ فجر الإنسانية وثنائية الخير والشر جزء لا يتجزأ من الإنسان، ولذلك ارتبط الصراع ارتباطاً وثيقاً بالطبيعة البشرية، فأينما وجد البشر وجد الصراع، فالشر فطرة والخير استثناء، والأفلام التي تهتم بالجانب الإنساني لا تُنكر الصراع، ولكنها تضع القلب في المقدمة، هذه النوعية من الأفلام تُذكرنا أن الخوف، والقلق، والحب، والأمل مشاعر مشتركة، مهما اختلفت الأديان والأعراق، تُذكرنا أن الإنسانية ليست حكراً على جماعة بشرية دون الأخرى، وأن الإنسان السوي هو الذي يقاوم الحقد ويتجاوز الكراهية، ويؤمن بالتعايش، ومن هذا المنطلق برزت أفلام تجسد معنى التسامح وتعبر عن فنًا نقياً يؤمن بالتعايش ومن أمثلة ذلك :
Bajrangi Bhaijaan: وهو فيلم هندي بديع مؤثر تلامس قصته ذات الطابع الإنساني القلوب، ويحكي عن رجل هندي بسيط يعتنق الهندوسية، يخوض رحلة مليئة بالتحديات والمخاطر ليعيد طفلة باكستانية مسلمة بكماء إلى أسرتها، متحدياً الانقسامات والصراعات السياسية والدينية بين الهند وباكستان، ليذكرنا أن الإنسانية قادرة على تجاوز الحدود.

فيلم PK: فيلم هندي آخر غير تقليدي ذات بعد فلسفي، متقن من الناحية الفنية استطاع بأسلوب كوميدي بسيط أن ينتقد استغلال بعض رجال الدين والكهنة للدين، وتقديس العديد من الأفراد لهم، ويوضح أن الإيمان الحقيقي الصادق يقوم على المحبة لا الخوف، وعلى التعايش لا على الكراهية.

فيلم The Green Book: وهو فيلم أمريكي، يشير عنوان الفيلم إلى دليل سفر للأمريكيين من أصل أفريقي، أصدر في منتصف الثلاثينيات خلال فترة الفصل العنصري في الولايات المتحدة الأمريكية، وقام بإعداده ساعي البريد ” فيكتور هوجو جرين”، وكان الغرض منه إيضاح الأماكن المسموح بها تواجد المواطنين السود فيها والأماكن الآمنة لهم، والفيلم عن قصة حقيقية للعازف الأسود الشهير “دونالد شيرلي” وسائقه الأبيض “توني ليب”، خلال رحلتهما للجنوب، والتي تكشف أن الرحلة ليست إلا رحلة تجاه الإنسانية، رحلة من التعصب إلى السلام، ومن الجهل إلى المعرفة، لتؤكد أن الفن والمعرفة قادرين على هزيمة الجهل والتعصب.

فيلم Philomena: والفيلم يستند إلى قصة حقيقية تروي رحلة سيدة عجوز متدينة تبحث عن ابنها المفقود في عيد ميلاده الخمسين، والذي أنتزع منها قصراً في مرحلة مراهقتها من قبل الراهبات في أحد الأديرة الكاثوليكية في أيرلندا، بسبب أنها أنجبته من علاقة غير شرعية، وتم بيعه لأسرة أمريكية، وتستعين العجوز بصحفي ماهر ليساعدها في إيجاد أبنها وتكتشف أنه ملحد، وفي رحلتهما تتحول العلاقة بينهما من خلاف فكري إلى حوار عقلاني، فرغم اختلافهما عقائدياً، إلا أنهما يلتقيان إنسانياً، والفيلم لم يهاجم الدين على قدرإنتقاده لتصرفات خاطئة بإسم الدين، ويتناول ذلك من منظور إنساني بدون خطاب عدائي، ويؤكد في النهاية أن القوة الحقيقية تكمن في الغفران لا الانتقام.

صوت هند رجب: وفي السياق العربي نجد أن الفيلم الفلسطيني والذي يتناول قصة واقعية مؤثرة عن مقتل طفلة فلسطينية تبلغ من العمر خمس سنوات، فصوت هند رجب الذي خفت تحت الدبابة ليس إلا صدى للإنسانية التي تدهس تحت جنازير الدبابات، وتدفن تحت أنقاض الحروب، فالفيلم هنا يذكرنا بأن السلام يبدأ من حماية الطفولة وصونها، وليست فقط المفاوضات السياسية.

المهرجانات السينمائية كجسور للتواصل والحوار
للمهرجانات السينمائية دوراً كبيراً في تشجيع صناعة السينما واستمرارها، وقد تحولت العديد من المهرجانات السينمائية حول العالم إلى منصات حية للحوار بين الثقافات، والتواصل بين الشعوب، ففي الولايات المتحدة الأمريكية يبرز دور United Nations Association film festival ، وهو مهرجان يعني بعرض أفلاماً وثائقية خاصة بحقوق الإنسان وقضايا البيئة واللاجئين، ومن جهة آخرى نجد أن Justice film festival في نيويورك، يعد مساحة لعرض الأفلام التي تتناول قضايا العدالة الإجتماعية، وتتناول قصص المهمشين، وتضع كرامة الإنسان في المقدمة، ومروراً بأوروبا ومهرجان One world film festival في براغ، حيث يعد من أكبر وأهم مهرجانات الأفلام الوثائقية في أوروبا التي تتناول قضايا حقوق الإنسان والقضايا الإجتماعية الخاصة بالحرية والعدالة والمساواة وغيرها.

وفي العالم العربي يبرز دور “مهرجان كرامة” لأفلام حقوق الإنسان بالأردن من رحم الواقع العربي، والذي أختار أن يكون منصة تخاطب الضمير الإنساني، وتنادي بالحرية والعدالة والمساواة، كما تمثل بعض المهرجانات العربية والمصرية الآخرى مثل “مهرجان القاهرة الدولي للفيلم القصير” وغيره من المهرجانات المصرية والمبادرات الشبابية والمجتمعية، مساحة حقيقية لدعم الشباب، وإلقاء الضوء على دور الأفلام القصيرة كقوة للتغيير الإيجابي، فالمهرجانات ليست مظهر من مظاهر الترف على قدر دورها كمنصات تعبر عن هموم الإنسان المختلفة، وتساهم في خلق حوار بين الثقافات عن طريق الصورة.

بوابات نحو التفاهم العالمي
التواصل بين الشعوب ونشر السلام وقبول الآخر ليس فعلاً فردياً بل هو جهداً مشتركاً، تتكامل فيه آدوات الفن والثقافة والسياسة، فرغم قوة السينما وقدرتها على التأثير في الوعي الجمعي، فإن تأثيرها يزداد بوجود مؤسسات تؤمن بفاعليتها وتساندها، وقد برزت بعض المؤسسات العربية والدولية والتي جعلت من التسامح والسلام وقبول الأخر هدفاً رئيسياً سخرت جهدها لتحقيقة، وفي هذا السياق شهدت “جامعة الدول العربية” حدثاً بارزاً حيث جاء افتتاح الصالون الثقافي العربي في 18 يونيو 2025، والذي نظمته “إدارة الثقافة وحوار الحضارات – قطاع الشؤون الاجتماعية”، وأنعقدت دورته الأولى تحت عنوان ” دور السينما في التقارب بين الشعوب”، وبالتزامن مع اليوم العالمي لمكافحة خطاب الكراهية، ليؤكد قدرة الفن والثقافة وفي مقدمتهما السينما، على بناء جسور للتواصل بين الشعوب، بدلاً من بناء الأسوار بينهما.

وتتقاطع هذه الجهود مع ما تقوم به بعض الكيانات والمؤسسات الدولية والعربية التي تعمل على تعزيز قيم السلام، وترسيخ ثقافة الحوار والتفاهم المشترك بين الشعوب، ومن أبرزها، المجلس العالمي للتسامح والسلام، والذي أسسه “أحمد بن محمد الجروان”، ويعد من أبرز الكيانات العربية والدولية التي تعمل على نشر ثقافة التسامح والسلام عبر وسائل عدة، منها التعليم، الحوار، والدبلوماسية الثقافية، بالإضافة لتأسيسه للبرلمان الدولي للتسامح والسلام، والذي يضم نواباً من العديد من البرلمانات، ويهتم المجلس بإبرام اتفاقات وشراكات مع جهات أممية دولية معنية بنفس الأهداف، مما يعكس انسجام أهدافه مع الجهود العربية والدولية لبعض الأفراد والمؤسسات التي تسعى لبناء عالماً أكثر تسامحاً وأنفتاحاً، كما تأتي جهود “مركز الملك حمد للتعايش السلمي” بدولة البحرين، والذي يهتم بنشر وترسيخ قيم التعايش وقبول الآخر من خلال مبادرات تعليمية وثقافية تهتم بالاستثمار في الإنسان وتطوير فكره وقدراته، كوسيلة للتقريب بين الثقافات ومكافحة الكراهية.

ومن جهة آخرى يأتي دور منظمة “الألكسو” وأنشطتها المختلفة، والدور الفعال ل”كرسي الألكسو للطفولة” والذي شهد في الآونة الأخيرة نشاطاً ملحوظاً تمثل في إطلاق مبادرات وتوسيع النشاطات والبرامج النوعية التي تسعى إلى تنمية وتطوير الحس الإبداعي لدى الأطفال، بالإضافة إلى دوره في بناء وعي يناهض التعصب والتطرف لدى النشء من خلال التربية والفكر، وبذلك فهو يؤسس لثقافة قبول الآخر لدى الأجيال القادمة.

الفن كضمير للعالم:
لا يستطيع الفن إيقاف الحروب، ولكنه يُذكرنا بأن للحياة معنى آخر خلف الصراعات السياسية والإقتصادية، كما تستطيع عدسة السينما أن تصبح عين الرحمة قبل أن تكون عين المراقبة، فكل فيلم إنساني صادق هو أداة لمقاومة الكراهية، وكل مشهد إنساني حقيقي هو دعوة لإعادة بناء الثقة في عالم سيطر عليه التوتر وعدم الإستقرار، وفي النهاية ستظل السينما صوتاً للضمير الإنساني حين يصمت الجميع، كما سيظل الفن الصادق مهما تغيرت الظروف والعصور الجسر الأكثر تواصلاً بين القلوب، والمكان الذي يقبلنا جميعاً كما نحن … بشراً لا أعداء.
أحمد المسيري

أحمد المسيري

باحث في علم الإجتماع السياسي والرأي العام ،والإعلام، كاتب وناقد سينمائي حاصل على درجة الماجستير في العلوم السياسية، الجنسية مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى