
واشنطن وإدارة المشهد الأفغاني عبر الثالوث الخليجي–الهندي–الباكستاني
|
الاستماع للمقال صوتياً
|
كاليفورنيا – مقال الرأي
د. عبير الله برهاني
بعد الانسحاب العسكري الأمريكي من أفغانستان في أغسطس 2021، شهدت استراتيجية واشنطن تحوّلاً عميقًا في طبيعة حضورها، من نمط السيطرة المباشرة إلى إدارة دقيقة وغير مرئية، تعتمد على شبكة معقدة من الشراكات الإقليمية الاستراتيجية. لم تعد أفغانستان تُنظر إليها كعبء أمني فحسب، بل أصبحت ساحة لإعادة رسم خريطة النفوذ، عبر وكلاء وشركاء في إطار ما يمكن تسميته بـ”الإدارة الجيوسياسية عن بُعد” — صيغة متطورة للهيمنة الناعمة تمكّن واشنطن من الحفاظ على تأثيرها في قلب آسيا دون انغماس عسكري مباشر.
أدركت الولايات المتحدة أن الفراغ الاستراتيجي الذي خلّفه الانسحاب لن يُسد إلا من خلال إعادة هندسة منظومة التوازنات الإقليمية عبر ثلاثة محاور رئيسة: الخليج العربي، والهند، وباكستان. هذا “الثالوث” لم يعد مجرد ترتيب جغرافي، بل تحوّل إلى ذراع إستراتيجي غير معلن لإدارة المشهد الأفغاني، بما يضمن استمرار النفوذ الأمريكي بأدوات ذكية وكلفة منخفضة، بعيدًا عن العبء العسكري التقليدي.
الخليج والشراكة الإستراتيجية
يشكّل المحور الخليجي ركيزة أساسية في الاستراتيجية الأمريكية لإدارة المشهد الأفغاني، بوصفه أداة مزدوجة تجمع بين الوساطة السياسية والرافعة المالية، ما يتيح ضبط التفاعلات في كابول دون انخراط مباشر. تتوزع الأدوار بين قطر التي تمثل القناة الدبلوماسية الأبرز، والسعودية التي تضطلع بدور المرجعية الرمزية والدينية والسياسية، والإمارات التي توظف قوتها الاقتصادية وشبكاتها الإغاثية والمساعدات الإنسانية لتعزيز حضور ميداني ودبلوماسي فعال. هذا التنسيق حافظ على قنوات تواصل مفتوحة مع كابول وثبّت توازنًا هشًا يمنع العودة إلى فوضى ما قبل 2001، بما يجعل النفوذ الخليجي أداة احتواء مرن ضمن شراكة استراتيجية تجمع المصالح الاقتصادية والأمنية والسياسية.
الهند: الركيزة التنموية والاستراتيجية
تأتي الزيارة المرتقبة لوزير خارجية سلطة الأمر الواقع، أمير خان متقي، إلى الهند بوصفها تطورًا ذا دلالات عميقة، إذ تُعد مؤشرًا على إعادة اختبار معادلات الإقليم في ضوء التقاطعات الخليجية–الهندية–الأفغانية. فالهند وكابول اللتان ظلتتا حذرتين في علاقاتهما، تبدوان اليوم أكثر استعدادًا لفتح آفاق جديدة للتعاون، مدفوعتين بالأخطاء المتكررة في مقاربة إسلام آباد والضجيج الإعلامي غير المحسوب الذي زاد فجوة الثقة الإقليمية. ومن شأن هذا التقارب الهندي–الأفغاني أن يضيف بعدًا جديدًا إلى حسابات واشنطن والخليج في إدارة التوازنات القادمة في جنوب آسيا.
باكستان: من الحليف المتقلب إلى الشريك الإجباري
باكستان تمثل الحلقة الأكثر تعقيدًا في المعادلة الأفغانية، فهي الجسر الجغرافي الحيوي بين الخليج وآسيا الوسطى، وفي الوقت ذاته نقطة ضعف واشنطن في علاقاتها مع كابول. منذ سيطرة طالبان على كابل عام 2021، تبنت إسلام آباد دورًا مزدوجًا: الحفاظ على نفوذها التاريخي عبر شبكاتها الأمنية والاستخباراتية، والسعي لاستعادة ثقة واشنطن التي تراجعت بفعل تقاربها مع بكين. زيارة قائد الجيش الباكستاني الفريق عاصم منير إلى واشنطن تعكس محاولة لترميم الثقة، خصوصًا في ظل الأزمة الاقتصادية الباكستانية وحاجتها للدعم الغربي.
باكستان اليوم على مفترق طرق استراتيجي بين التوازن مع الولايات المتحدة والتقارب مع الصين وروسيا وإيران، في سعي لموازنة مصالح متضاربة. وهي تحاول الحفاظ على نفوذ في كابول، لكنها تواجه تحديات بسبب فقدان الإجماع الداخلي على استضافتها عناصر معارضة هشة بلا وزن سياسي فاعل كرهان خاسر، إضافة إلى ضجيج إعلامي معادٍ لطالبان زاد فجوة الثقة وأضعف دورها كوسيط إقليمي فاعل.
انعكاسات الإدارة الأمريكية
تُنظر واشنطن إلى طالبان كظاهرة سياسية قابلة للاحتواء لا للإقصاء، تعمل على ضبطها عبر أدوات اقتصادية ووساطات خليجية وموازنة هندية–باكستانية، بهدف منع فراغ استراتيجي تستغله بكين أو موسكو أو طهران. الصين تسعى عبر “الحزام والطريق” لربط أفغانستان بممرها الاقتصادي، بينما ترى روسيا في استقرار طالبان فرصة لتعزيز نفوذها. ومن هنا، تظل واشنطن، رغم انسحابها العسكري، اللاعب الأبرز، عبر إدارة ذكية تقيد حركة المنافسين وتحوّل أفغانستان إلى “عقدة توازن” تُرسم حدود نفوذها فيها بالمال والدبلوماسية، لا بالقوة العسكرية.
السيناريوهات المحتملة: قد يتّجه المشهد الأفغاني نحو أحد ثلاثة سيناريوهات رئيسة:
١-الاحتواء المرن: وهو السيناريو الذي تعتمد فيه واشنطن على شبكة من الوسطاء الإقليميين (الخليج – الهند – باكستان) لإبقاء كابول تحت المراقبة دون تدخل مباشر، مع ضمان تدفق المساعدات المشروطة.
٢-الاستقطاب الحاد: في حالة تصاعد النفوذ الصيني -الروسي أو الإيراني في كابول ما قد يدفع واشنطن الى دعم محاور مضادة وربما إعادة التموضع الاستخباراتي في الإقليم.
٣-الجمود المراقَب: وهو بقاء الوضع على حاله مع إدارة التوازنات من بعيد، بانتظار تحولات داخلية في أفغانستان أو المنطقة تتيح إعادة تشكيل النفوذ الأمريكي بأدوات جديدة تسعى إلى ربط أفغانستان بالممرّ الاقتصادي الصيني–ما يمنحها منفذًا مباشرًا إلى وسط آسيا ويُضعف النفوذ الأمريكي هناك. أمّا روسيا، فترى في استقرار طالبان دون وصاية أمريكية فرصة لإعادة تفعيل نفوذها التاريخي عبر منظمة الأمن الجماعي أو من خلال القنوات الدبلوماسية مع كابول.
ختامًا، يظهر أن واشنطن نجحت في تحويل أفغانستان من عبء عسكري إلى منصة نفوذ تُدار عبر شركاء إقليميين، ينهضون بدور الإدارة بالوكالة. هذا التحوّل لا يعكس تراجعًا في الاهتمام الأمريكي، بل إعادة صياغة إستراتيجية تقوم على “الإدارة الذكية عن بُعد”، حيث تظل الولايات المتحدة حاضرة في عمق اللعبة الإقليمية، عبر وجوه خليجية وهندية وباكستانية متداخلة
إنها إدارة بلا جنود، لكنها بأذرع متعددة تضمن بقاء التأثير الأمريكي في قلب آسيا، دون كلفة حربية مباشرة. وتبقى القدرة على تحويل تناقضات الشركاء الإقليميين إلى أدوات توازن واستدامة للمصالح الأمريكية، جوهر هذه الإدارة الجيوسياسية المعقدة، التي ستشكل معالم مستقبل أفغانستان والمنطقة لعقد قادم.