آخر التحديثاتأبرز العناوينديمقراطياتمقال الرأي

كابول في مرمى الخصوم مع غياب الأولويات الأميركية

الاستماع للمقال صوتياً

كاليفورنيا – مقال الرأي

الدكتور عبيد الله برهاني

في يونيو/حزيران 2025، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب قرارًا تنفيذيًا يقضي برفع العقوبات عن سوريا، مشيدًا بحكومتها الجديدة، ومؤكدًا دعم واشنطن لسوريا موحدة ومستقرة. برر ترامب قراره بأنّه يصبّ في خدمة الأمن القومي والمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، في خطوة جسّدت منطق السياسة الواقعية القائم على التعامل مع الوقائع والمصالح، لا المبادئ المعلنة.

هذا المشهد يثير تساؤلًا مشروعًا: إذا كانت واشنطن ترى أن دعم استقرار سوريا، رغم الجدل المحيط بنظامها الجديد، ينسجم مع مصالحها القومية، فلماذا تتجاهل الساحة الأفغانية وتتركها مفتوحة أمام تمدد نفوذ خصومها؟ لا سيّما بعد الاعتراف الروسي الرسمي بحكومة الأمر الواقع في كابول، واصطفاف الصين إلى جانب هذا القرار، في حين تتبع إيران وباكستان نهجًا داعمًا له. أليس من مقتضيات ذات المنطق، ضمان ألّا تتحول أفغانستان إلى منصة نفوذ معادٍ أو منطقة رخوة أمنية في قلب آسيا الوسطى؟

منذ انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان في أغسطس/آب 2021، باتت واشنطن تنظر إلى هذا البلد باعتباره عبئًا استراتيجيًا مرتفع الكلفة منخفض العائد، بعد عقود من الحرب التي استنزفت الموارد وأرهقت الرأي العام الأميركي. ورغم ما تتمتع به أفغانستان من أهمية جيوسياسية باعتبارها بوابة إلى الصين وآسيا الوسطى، وساحة تأثير على معادلة القوى مع روسيا وإيران والهند، تراجع حضورها تدريجيًا إلى هامش الأولويات الأميركية.

في المقابل، تحوّلت بوصلة الاستراتيجية الأميركية نحو محاصرة الصين في شرق آسيا والمحيط الهادئ، واحتواء تداعيات الحرب الروسية-الأوكرانية، فضلًا عن مواصلة الضغط على طهران في ملفها النووي. وبينما انشغلت واشنطن بهذه الملفات، بقيت أفغانستان بلا خطة بديلة واضحة للتعامل مع الواقع الجديد الذي فرضته سيطرة حركة طالبان بعد ٢٠٢١.

لم يقتصر تأثير الانسحاب الأميركي على ترك فراغ في الداخل الأفغاني، بل مسّ أيضًا مصداقية واشنطن لدى حلفائها عبر العالم. فقد أثارت الطريقة الفوضوية التي جرى بها الانسحاب والتي انتقدها الريس ترمب مرارا و تكرار واثارت تساؤلات عميقة بشأن مدى التزام الولايات المتحدة بحماية شركائها، ودفعت العديد من الدول للبحث عن تحالفات بديلة تعزز أمنها ومصالحها بعيدًا عن المظلة الأميركية. ومكّنت هذه الحالة خصوم واشنطن من التمدد وتوسيع نفوذهم.

فروسيا، على سبيل المثال، استغلت الوضع لتعزيز وجودها الدبلوماسي في كابول ورفعت تمثيلها إلى مستوى سفير مع الاعتراف الرسمي بحكومة الامر الواقع في كابول. وان كانت هذه الخطوة في الظاهر بدوافع امنية الا أنها في الواقع تتجاوز البعد الرمزي والدبلوماسي، لتبعث برسالة صريحة إلى الغرب بأن موسكو تسعى إلى إعادة رسم توازنات إقليمية جديدة في جنوب آسيا وعموم المنطقة. يزداد وقع هذه التحركات خطورة في ظل غياب موقف أميركي واضح وتعريف دقيق لشكل الانخراط الدولي مع أفغانستان.

إن ما يجري اليوم يؤكد تحوّل أفغانستان إلى ساحة استقطاب إقليمي معقّدة، تهدد بإعادة تشكيل المشهد الأمني والاستراتيجي في آسيا الوسطى. ولا تقتصر تداعيات هذا الوضع على القوى الكبرى، بل تمتد إلى دول الخليج العربية، الحلفاء التقليديين لواشنطن، إذ أن استقرار أفغانستان أو اضطرابها سينعكس على الأمن الإقليمي ومشاريع الطاقة ومسارات الاستثمار.
وتُمثّل أفغانستان معبرًا حساسًا في منطقة ملتهبة بالأيديولوجيات المتشددة والجماعات الإرهابية التي قد تهدّد أمن دول الخليج ومصالحها الحيوية. الأمر الذي يستدعي استراتيجية إقليمية متكاملة تتجاوز بؤر التوتر التقليدية، وتأخذ بعين الاعتبار الساحة الأفغانية كعامل مؤثر في معادلة الاستقرار الإقليمي.

ورغم أن النظامين القائمين في كابول ودمشق لا يتشابهان في بنيتهما الفكرية وتركيبتهما المجتمعية والبيئة السياسية المحيطة، إلا أن أدوات الضغط والتأثير متوفرة في الحالتين، وإن بدرجات وأشكال متفاوتة. ليس بالضرورة أن تتعامل واشنطن مع طالبان بذات الأسلوب الذي اعتمدته مع النظام السوري، بل يمكنها توظيف وسائل ضغط ذكية تقوم على مقاربة متعددة المسارات.
تشمل هذه المقاربة سواء كان الانخراط الشامل او ربط أي اعتراف دولي أو دعم اقتصادي بتحقيق تعديلات سلوكية ملموسة، خاصة فيما يتعلق بحقوق المرأة، وتعليم الفتيات، وحماية الأقليات الدينية والعرقية. إضافة إلى ذلك، يمكن استخدام نفوذ دول الجوار كالسعودية وقطر وتركيا وباكستان وأوزبكستان، للضغط المتدرج على طالبان، مع دعم المبادرات الاجتماعية والدينية والقبلية المحلية، التي ترفض الانغلاق المتشدد، بما يعزز من حضور قوى معتدلة داخل المجتمع الأفغاني.

كما تمتلك واشنطن فرصة لتحجيم النفوذين الروسي والصيني بهدوء، عبر مبادرات اقتصادية وتنموية، وعروض استثمارية ذكية، وضمانات حذرة لبعض القوى المحلية، دون الحاجة للعودة إلى الخيار العسكري، مع الحفاظ على حضور سياسي مدروس في المشهد الإقليمي.

في المحصّلة، تكمن معضلة السياسة الأميركية اليوم ليس في غياب أدوات التأثير أو نقص الخيارات، بل في غياب الإرادة السياسية والترتيب الواقعي للأولويات بما يتماشى مع متغيّرات الإقليم. فلو طُبّق منطق “استقرار يخدم الأمن القومي الأميركي” الذي استند إليه ترامب في الملف السوري، لما تُركت كابول فريسة سهلة لنفوذ خصوم واشنطن. ومع الاعتراف الروسي الأخير بحكومة طالبان، وتنامي التنسيق الثلاثي بين موسكو وطهران وبكين، تتسع هوة التوازنات الاستراتيجية في قلب آسيا الوسطى.
وبات الملف الأفغاني بمثابة قنبلة جيوسياسية موقوتة، تحتاج إلى مراجعة عاجلة من قبل صناع القرار الأميركي. ويبقى السؤال مفتوحًا: هل تمتلك واشنطن الإرادة السياسية للتحرك قبل فوات الأوان، أم ستواصل إدارة الظهر لملف تتقاطع فيه المصالح الدولية والإقليمية، ويتوقف عليه استقرار شركائها التقليديين في الخليج ومستقبل التوازن الجيوسياسي للمنطقة بأسرها.

د. عبيد الله البرهاني

أكاديمي وكاتب سياسي أميركي من أصل أفغاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى