آخر التحديثاتأبرز العناوينأوراق استراتيجية

السعودية حريصة على شراكتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة

الاستماع للمقال صوتياً

مكّة – خاص وايتهاوس إن أرابيك

بقلم د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب*

هناك تشابه إلى حد ما بين الانسحاب البريطاني من شرق السويس ومن منطقة عدن وجنوب الجزيرة العربية، والانسحاب الأمريكي من منطقة الشرق الأوسط، بسبب أن انسحاب بريطانيا لم تعد قادرة على إدامة امبراطوريتها في وجه تحديات متعددة المصادر نتيجة الأزمة الاقتصادية الشديدة التي كانت تمر بها بريطانيا التي أدت إلى تخفيض الجنيه الإسترليني، لكن خروج بريطانيا من شرق السويس 1968 استراتيجيا لم يكن نتيجة اقتصادية طارئة بل في الحقيقة اعتراف بانتهاء إمبراطوريتها نتيجة الخسائر التي منيت بها نتيجة حركات التحرر الوطني في مستعمراتها علاوة على بزوغ القوة الأمريكية.

بالطبع حاولت الولايات المتحدة تطبيق مبدأ نيكسون في منطقة الخليج عام 1970،وقد أوضح مساعد وزير الخارجية الأمريكي في حينه جوزيف سيسكو أن تطبيق مبدأ نيكسون يتطلب تنشيط التعاون بين الدولتين الرئيسيتين في المنطقة السعودية وإيران بما يضمن الاستقرار بعد خروج بريطانيا، حيث أثبتت استراتيجية مبدأ نيكسون نجاعتها، رغم ذلك أراد الشاه أن يتحول إلى شرطي الخليج، وعشية انسحاب بريطانيا من المنطقة أرسل جنوده للسيطرة على الجزر الإماراتية الثلاث من أجل ضمان سيطرة إيران على مضيق هرمز مقابل تسوية مطالبه بالبحرين، وفي نفس الوقت السعودية سعت إلى التوسط في تشكيل دولة الإمارات المتحدة وتوسطت في انضمام رأس الخيمة في فبراير 1972 إلى الاتحاد مستبقة تدخل إيران في المنطقة.

غيرت الثورة الخمينية مبدأ نيكسون بل وضعت نهاية لها، وضربت المنطقة ثلاث حروب إقليمية متتالية بدأت بحرب تحرير الكويت، بعدما أصبحت الولايات المتحدة القطب الأوحد ثم غزو أفغانستان، تلتها حرب إسقاط صدام حسين، وسميت بعقيدة بوش التدخلية، ثم أتت عقيدة أوباما في 2015 التي أوضحها أوباما مع صحيفة نيويورك تايمز والتي تركز على التفاوض والتعاون بدلا من المواجهة والأحادية في الشؤون الدولية، لكن البعض اعتبرها مثالية وساذجة للغاية، ويجادل البعض بأن عقيدة التعددية الأخلاقية تعكس اهتمام أوباما بالفيلسوف رينهولد نيبوهر الذي دعم السياسة الخارجية الأمريكية التدخلية، لكنه حذر من الغطرسة وسوء التقدير الأخلاقي، وهي تختلف تماما عن مبدأ مونرو، أو مبدأ ترومان، أو مبدأ نيكسون، أو عقيدة كارتر، أو مبدأ ريغان.

أثبت أوباما فشل تجربته في الشرق الأوسط على تشكيل الجغرافيا السياسية في المنطقة، ويظهر ذلك بوضوح في حروب وتدخلات إيران في المنطقة، وكذلك التباطؤ المقلق في تحقيق نتائج حاسمة في قضية نووي إيران، ولم تقتنع السعودية بحقيقة أمريكا حول انسحابها من الشرق الأوسط بين الالتزام مقابل الانسحاب، أي بناء تقديرات استراتيجية تحدد القضايا التي تتطلب التدخل في أحداث المنطقة، ولم تتمكن من التدخل عندما ضربت منشآت أرامكو في 2019، رغم إدراك السعودية من الصعب أن تنفذ أميركا الانسحاب الحاد من الشرق الأوسط، خصوصا وأن أنصار الانسحاب يرون أن المنطقة لم تعد منطقة استراتيجية من الفئة الرفيعة بالنسبة لواشنطن، خصوصا مع ارتفاع الدين الأمريكي نحو 31 تريليون دولار، ويرى أنصار الانسحاب يجب أن تتحول القوات الأمريكية المنسحبة نحو موقعين في المسرح الأوربي لتقوية حضور الناتو في القارة العجوز، خصوصا بعد الحرب الروسية في أوكرانيا، والثاني شرق آسيا بالقرب من المحيطين الهادي والهندي تحسبا للصراعات القادمة مع الصين.

السعودية بدأت ترصد التحولات الأمريكية منذ نهاية سنوات باراك أوباما الثماني التي تركت سياسة القيادة من خلف الكواليس تأثيرات سلبية عديدة على الحضور الأمريكي التقليدي خليجيا وشرق أوسطيا حين أحجم عن حسم الكثير من الصراعات الملتهبة وفي نفس الوقت أزعج السعودية هرولته نحو إيران وتوقيع اتفاق نووي مع إيران مقابل غض الطرف عن النفوذ الإيراني في المنطقة مما خلق بؤر ساخنة مستمرة.

الحراك الذي قامت به السعودية أقلق الولايات المتحدة، ولا تود الدخول في توترات جديدة مع السعودية خصوصا بعد الأزمة التي حدثت بين البلدين عندما خفضت السعودية إنتاج نفطها بمعدل 2 مليون برميل في أكتوبر 2022 قبل الانتخابات النصفية الأمريكية، ولم تستجيب السعودية كعادتها لطلب الولايات المتحدة أن يكون الخفض بعد تلك الانتخابات، لكن السعودية تجاهلت هذه المطالب، وخفضت من أجل تحقيق مبدأ اقتصاد السوق للموازنة بين العرض والطلب، اعتبرته الولايات المتحدة تجرأ سعودي، وبشكل خاص من قبل ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، وبعدما رفضت السعودية تحقيق المطلب الأمريكي حدث تضجر أمريكي وكذلك حدث تضجر أمريكي من عودة سوريا للجامعة العربية.

يجتمع وزراء مجموعة السبع التي تضم فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا وكندا والولايات المتحدة، واليابان في اليابان من 16-18 أبريل لإعادة ترتيب الأوراق بعدما شكك بعض الحلفاء في الشرق الأوسط، وبشكل خاص في السعودية في مدى وفاء الولايات المتحدة بالتزاماتها الأمنية في المنطقة، واختارت السعودية وبقية دول الخليج الوقوف على الحياد من حرب روسيا على أوكرانيا، بل ودفعهم إلى تنويع شراكاتهم خصوصا مع الصين وكذلك التحالف في أوبك بلس مع روسيا، وأعتبر احد الدبلوماسيين من مجموعة السبع أن الاتفاق الإيراني السعودي الصيني بمثابة تشخيص لمشاكل الغرب، وأن على مجموعة السبع أن تعيد تقييم الحراك الجديد في المنطقة. كما قالت رويترز أن هناك تحولات في الشرق الأوسط بقيادة السعودية تدفع مجموعة السبع لمناقشة تراجع نفوذها بالمنطقة، حيث بوغتت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوربيون في مارس 2023 توسطت الصين في اتفاق بين السعودية وإيران لاستئناف العلاقات الدبلوماسية، ليس هذا فحسب بل انضمت السعودية إلى منظمة شنغهاي، ومؤكد أنها ستنضم أيضا إلى البريكس.

اتفاق النفط مقابل الأمن بين الولايات المتحدة والسعودية، الذي وقعه الملك عبد العزيز والرئيس روزفلت في عام 1945 على متن سفينة أمريكية في قناة السويس، أتاح للولايات المتحدة الوصول للنفط السعودي مقابل الأمن. لكن هناك متغيرات من قبل الجانبين في الالتزام بهذه الاتفاقية، وبالتخفيض الطوعي الأخير الذي أضيف إلى 2 مليون في أكتوبر سيرفع الأسعار فوق 85 دولار للبرميل خلال السنوات المقبلة أعلى بكثير من متوسط سعر البرميل البالغ 58 دولارا بين عامي 2015-2021.

أصبح لدى السعودية وبقية أعضاء أوبك بلس أولويات خاصة بهم من الخطط الطموحة لسمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، حيث تنزعج الولايات المتحدة أن ترى أوبك بلس متماسكة بعدما كانت مشتتة ومتفرقة، وكانت تخشى أن تجتذب المزيد من المنافسة، لا سيما من النفط الصخري الذي ارتفع إنتاجه منذ عام 2014، وكان هذا الاختلاف هو الذي أدى إلى اندلاع حرب أسعار بين روسيا والسعودية في 2020 والتي انتهت عندما توسط الرئيس الأمريكي آنذاك ترامب في صفقة.

ووفقا لمجلة نيوزويك الأمريكية أوضحت أن الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي مشغولا هذه الأيام في صنع السلام في منطقة الشرق الأوسط، وأن تصبح السعودية مركزا إقليميا وعالميا، وهذا كله يتحقق بدون مساعدة الحليف الأكبر الولايات المتحدة.

بالفعل السعودية تبحث عن وسيلة تحوط قوية بسبب أنها ترى أن سياسة الولايات المتحدة لا يمكن التنبؤ بها بشكل جذري خصوصا وأنها تتبع الخداع الاستراتيجي، خصوصا بعدما رفع بايدن الحوثيين من قائمة الإرهاب، ومن قبل في عهد ترمب وقفت الحكومة الأمريكية العميقة في منع التحالف بقيادة السعودية من تحرير الحديدة، واستبدلته باتفاق استكهولم المرحلي بحجة الحفاظ على ميناء الحديدة من التدمير.

فالسياسة الأمريكية متقلبة بل وحادة بين أوباما وترمب وبايدن، ما جعل السعودية تركز على الأولويات الوطنية، وليس هدفها تحدي الولايات المتحدة كما يروج بعض المحللين لذلك، بل هي حريصة على الإبقاء على العلاقة الاستراتيجية وعلاقة الشراكة مع الولايات المتحدة وهذا يتضح من اللقاءات التي حدثت مع المسؤولين الذين زاروا سمو ولي العهد ووجدوا كل ترحاب.

البداية أتت من قبل وعد بايدن أن يجعل السعودية دولة منبوذة، لكنه قام بزيارة السعودية ومقابلة سمو ولي العهد، ثم أتت زيارة رئيس الاستخبارات الأمريكية وليم بيرنز لإرسال رسالة مهمة للسعودية، أعقبها زيارات مكثفة لعضو الكونغرس الأمريكي ليندسي غراهام بعدما كان يرفض مقابلة سمو ولي العهد على غرار بايدن، لكن بعد مجيء بايدن ومقابلة سمو ولي العهد أتى ليندسي بل وغرد عن لقائه بولي العهد الأمير محمد بن سلمان بقوله كان اجتماعا مثمرا وصريحا للغاية، واعتبر أن الإصلاحات في السعودية حقيقية وجادة، وقال أتطلع لزملائي الجمهوريين والديمقراطيين من أجل الارتقاء بالعلاقات السعودية الأمريكية إلى مستوى أعلى، وشكر سمو ولي العهد على الصفقة الضخمة لشراء طائرات بقيمة 37 مليار دولار التي اعتبرها غيرت قواعد اللعبة.

هذه هي السعودية سياساتها واقعية تدافع عن مصالحها، وليست سياسات عنترية، تعرف قدر أمريكا، ولا تود ان يضعف دورها في المنطقة، أو يتم تحجيم الشراكة معها، بل تتجه السعودية نحو تنويع شراكاتها. فهناك لهفة أميركية في تكثيف الاتصالات من قبل جاك سوليفان مستشار الأمن الأمريكي، كما استقبل وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان منسق مجلس الأمن القومي الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا السيد بريت ماكفورك.

تود السعودية أن تكون موقعا استراتيجيا لالتقاء الشرق والغرب، والجميع شركاء لها.

د. عبد الحفيظ عبد الرحيم محبوب

أستاذ الجغرافيا السياسية والاقتصادية بجامعة أم القرى بمكة [email protected]
زر الذهاب إلى الأعلى