اللاعب واللعبة.. عن محور الرياض/دمشق
الاستماع للمقال صوتياً
|
بقلم نشمي عربي
واشنطن – خاص وايتهاوس إن أرابيك
على عكس مايوحي به عنوان هذا المقال، فهو ليس للحديث عن كتاب “اللاعب واللعبة” للمحلل السابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “مايلز كوبلاند” الذي كتبه عام 1989 وتحدث فيه بإسهاب عن سنوات عمله في محطة الـ CIA في دمشق بين أعوام 1947-1950 وعلاقته بالعديد من الأسماء البارزة في التاريخ السياسي السوري.
قبل كتابه هذا بسنوات (عام 1969) كان “كوبلاند” قد نشر كتابه الشهير “لعبة الأمم” الذي مزج فيه بين قليل من الحقائق وكثير من الخيالات، بطريقة فانتازية تصلح لأفلام هوليوود أكثر منها لسرد واقعي وأمين لصعود وانحسار العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية والرئيس عبدالناصر، والتي كان كوبلاند دون شك طرفاً أساسياً في مطبخها السياسي الذي ضم لاعبين محترفين من أمثال “جفرسون كافري”، “جيمس إيخلبرجر” و “كيرميت روزفلت”، ومحطة الـ CIA في القاهرة هذه المرة، في خمسينيات القرن المنصرم.
بعض الروايات (الغير مثبتة) حول التمويل الذي حصل عليه كوبلاند من الشيخ “كمال أدهم” لنشر كتابه “لعبة الأمم” ربما تفسّر الغاية من وراء نشره بمسحته الدرامية الفانتازية التي جاءت بأسلوب مختلف تماماً عنه في كتابه الآخر “اللاعب واللعبة”، إلا أن هذا الأمر هو موضوع منفصل يستحق التوقف عنده يوماً.
نتحدث هنا عن لعبة أخرى، لاتُغَيِّر من قواعدها حقيقة مركزية سوريا، وذلك بعد أن صارت (نظاماً وشعباً ومعارضات) الحلقة الأضعف والأقل أهميةً في تلك اللعبة.
مناسبة هذا الحديث هو مانسمعه ونقرأه اليوم من سرديات لامتناهية، وما سنشاهده غداً من خطوات خجولة، حول إعادة استئناف العلاقات بين المملكة العربية السعودية والنظام السوري، والتي نعيشها اليوم كما عشنا مع كوبلاند في لعبة الأمم، بحفنة من الحقائق والكثير من الخيالات، ولكن بإخراج ركيك من بعض الجهات المحسوبة على المقلبين الموالي والمعارض، أين منها مسحة الإخراج الدرامي التي انتابت كوبلاند بعد تقاعده من الـ CIA.
لاأستطيع أن أنكر أن ولادة هذه السرديات كانت شرعية بالكامل، فمن الطبيعي أن يكون السوريون في المقلبين، الموالي والمعارض، في الداخل أوفي الدياسبورا، مهتمين وبشدة بكل مايتعلق بشأن بلدهم. وهذا الاهتمام بالحقيقة يتجاوز عند نسبة كبيرة منهم ترف التحليل السياسي إلى أمور جوهرية تمس حياتهم اليومية ومعاشهم الذي ينتقل كل يوم وبفعل عوامل عديدة (لم تكن غالباً من صنع أيديهم) من صعب إلى أصعب، بما ترك آثاره على طريقة تعاطيهم لموضوع مهم مثل إمكانية استئناف العلاقات السعودية السورية، ساهَمَ في ذلك شِحِّة المعلومات الرسمية من الطرفين المعنيين، وربما عدم ثقة السوريين في دقتها إن وجدت.
اللغط الكبير في تداول هذه السرديات أو مبرر وجودها في أذهان العديد من السوريين يأتي من حقيقة أن دقتها تتأثر بشدة بالأهواء السياسية لأصحابها، في اغترابٍ مطلق عن نظرة واقعية تُعنى بالمتغيرات السياسية في المنطقة والعالم، لاتستقيم قراءة معقولة للأمور من دونها.
السوريون الأقرب لأجواء الموالاة يجنحون نحو جادة الإثبات، في سعيٍ حثيثٍ منهم لتأكيد أن النظام انتصر بالمطلق وهو غير مضطر لتقديم أية تنازلات بدليل أن الدول العربية (تتهافت) لإعادة العلاقات الرسمية معه، ومكمن اللغط عند هؤلاء بسيط للغاية ولايحتاج لكثير دحض أو تفنيد. فعن أي انتصارٍ يتحدثون والبلد يرزح تحت احتلال خمسة جيوش أجنبية على الأقل، ويسير برمته باتجاه هاوية اقتصادية لم تستثنِ من السوريين إلا طبقة أمراء الحرب، ناهيك عن كل دلالات الإنكسار الأخرى التي تؤلم الجميع؟ والسؤال المهم لهم هو: حتى لو عادت العلاقات الرسمية بين النظام ومحيطه العربي مجتمعاً، ماذا يمكن أن تقدم له لانتشال سوريا من حالة الإنهيار الاقتصادي والسياسي والاجتماعي التي تعانيها، خصوصاً في ظل استمرار حالة انقسام دولي حول الشأن السوري لايمكن لأي حلول حقيقية أن تحظى بآليات واقعية لإنفاذها في ظلها؟
أما هؤلاء الأقرب لأجواء المعارضات والذين يجنحون لجادة النفي، فهم في أعماق وجدانهم – قبل عقولهم – لايستطيعون تقبّل حقيقة أنه بعد كل الدماء والضحايا والتشريد والتهجير التي عاشها السوريون (من كافة الإتجاهات) فالأمور تعود اليوم للمربع صفر وكأن شيئاً لم يكن، تماماَ كما تفيد العبارة الإنجليزية لوضعية (Business as usual). ومكمن اللغط عند هؤلاء أيضاً بسيط ولايحتاج لكثير تفنيد، وهو عن مدى التأثير الحقيقي لكل المقاطعات والعقوبات العربية والدولية والأممية في إضعاف النظام، أو لوضع سوريا على سكة حل يكون مرضياً لكل السوريين ولو في الحدود الدنيا.
بين طرفي النفي والإثبات هناك طرف ثالث أكثر (راديكاليةً) ربما يصحّ وصفه بطرف (المعارضين الـ ULTRA) الذين يؤكدون الإثبات ويستخدمونه كسبَّة على المملكة في مغالاة بانتقاد أي شيء يتعلق بها، ويأتي عادةً ضمن دخولٍ غير محسوب على الشأن الداخلي السعودي ليربط بين سياسات الانفتاح السعودية الجديدة ومؤامرة عالمية أممية لاشغل لها سوى (التآمر) على السوريين وثورتهم! إنها الوجه الآخر لنفس العملة التي طرحها النظام منذ 2011، والتي تروِّج لمؤامرة كونية ضده. المضحك في الأمر أن النظام لم يستثنِ السعودية يومها أن تكون طرفاً فيها، بل وضعها في صدارة من رعوها.
لا أرى جدوى في الحديث عن مكمن اللغط عند هذا الفريق سوى أنه يزج (عن غير قصد) بالسوريين جميعاً في مواجهات لامصلحة ولاطائل لهم بها، في الوقت الذي يرفض فيه أن يعترف بالمتغيرات الإقليمية والدولية ليقرأ بشكل صحيح ومنطقي منعكساتها في هذا المفصل السوري تحديداً والتي ستقود إلى ماقد نراه من خطوات قادمة، بانفتاح مخيف على كافة الإحتمالات، وليس على خط الرياض-دمشق فقط.
السؤال للجميع الآن هو: متى سندرك أن سوريا تحولت من لاعب إقليمي مهم إلى الحلقة الأضعف والأقل أهمية في لعبة إقليمية تجاوزتها، وكل السوريين، منذ زمن طويل؟ ولماذا لانعتقد ولو للحظة أن موضوع الانفتاح السعودي على النظام (قد) يكون ورقة في المفاوضات السعودية- الإيرانية التي لايمكن بعد التنبؤ بنتائجها والتي من الممكن أن تفاجئ الجميع من الأطراف كافة؟
هل فكرنا للحظة أن هناك سياسة خارجية سعودية جديدة، تضع مصالح المملكة (كما تراها هي) أولاً؟ وإذا ارتأى القائمون على هذه السياسة مصلحة سعودية في مفاوضاتهم مع إيران في أن يقدموا ورقة تنازل ما في أن يفتتحوا دكاناً لبيع الطوابع في دمشق تحت مسمى (استئناف خدمات قنصلية) فما الذي سيمنعهم من القيام بذلك؟ يساعدهم في الأمر حقيقة لايمكن إنكارها وهي أن هذا التمثيل القنصلي هو حاجة (أهلية) تتعلق بالسوريين من طرفي المعادلة، أكثر مما تتعلق بالسعودية. وكعادته، فليبنِ النظام على الأمر مايرضي غروره الديبلوماسي ويزيد في صلفه السياسي وفي لاواقعيته التي اعتادها الجميع، فزمن الحلول لم يأتِ بعد، ولا حتى تباشيره تلوح في الأفق.
لاأحاول تبرير الموقف السعودي فهو قد تجاوزنا جميعاً، ولا أخال أن مواقف السوريين من تحركه الإقليمي الجديد هي آخر همومه، ولكن هذا ليس مبرراً ألا نقرأه بشيء من الواقعية نحن أشد مانكون بحاجتها.
السؤال الآخر المهم حول موضوع الانفتاح السعودي على النظام السوري، سواءً حصل في حدوده الدنيا أو القصوى، والأمران واردان: هل الموضوع برمته محكوم فقط بالنزال الديبلوماسي بين الرياض وطهران والذي أعلنه البلدان من بكين خياراً بديلاً للنزال الخشن على أرض اليمن مثلاً؟ أم أن للموضوع بعداً آخر يتعلق باصطفاف صار واضحاً هو أقرب إلى موسكو من واشنطن؟
أعود لـ اللعبة واللاعب..
اللعبة معقدة ومتشابكة، ومداها الأقصى يمتد من موسكو لواشنطن، أكبر من النظام السوري والشعب والمعارضات. وهم جميعاً غير مدعوين ليكونوا حتى في مدارج المتفرجين، اللاعب يدرك ذلك، ولكن بما لايحد من طموحه واندفاعه.
تبقى نتيجة اللعبة..
والتي ربما لن تأتِ دفعة واحدة،
والتي قد تكون مخالفة لتوقعات الجميع،
والتي لن تتوضح معالمها قبل نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة.