بسمة قضماني التي غابت
الاستماع للمقال صوتياً
|
*بقلم فايز سارة
في ملخص السيرة، تتشابه المحتويات مع محتويات سيرة غيرها من سوريين عاشوا في الشتات بعد أن نبذهم بلدهم أبان غرقه في بحر الاستبداد والديكتاتورية، سواء في حكم الحزب الواحد أو في ظل حكم الأسدين، وفي الملخص هجرة نتيجة ظلم، ثم معاناة ودأب ليشق الشخص طريقه، ويرسم ملامح تميزه، ويبني مستقبله، ليس فقط كما يشتهي ويرغب، بل أيضاً بما يقيم صلة مع بعيد كان وطنه وفيه بعض من أهل وذكريات، وأماني ظاهرة وربما خفية تنتظر فرصة سانحة للظهور والتفاعل مع محيطها.
وإذا كان ملخص سيرة بسمة قضماني التي غادرتنا مؤخراً تشبه سيراً أخرى، فإنها في التفاصيل تبدو مميزة ومتفردة في أغلب محتوياتها وتفاعلاتها. فهذه السيدة التي غادرتنا في نحو منتصف عقدها السابع، خرج أبوها ناظم قضماني، الدبلوماسي السابق، مطروداً من عمله وبلده بعد اعتقال وإهانة، لأنه تجرأ في قول رأي بضرورة استقالة من كانوا في واجهة المسؤولية في خلال الأيام السوداء لهزيمة حزيران 1967، حاملاً عائلته وبين أفرادها بسمة التي كانت في قرابة السنوات العشر من العمر، فاستقر ثلاث سنوات في لبنان، انتقل بعدها إلى بريطانيا، التي غادرها بعد سنوات، ليستقر في فرنسا مع عائلته ما تبقى من عمر.
بين بيروت ولندن وباريس، ووسط عائلة تعاني الغربة، وأب تمرد على حكم لا يقيم وزناً لمواطنيه، عاشت، وتكونت ملامح بسمة في قواعدها الاجتماعية وفي بنيتها الثقافية والمعرفية، التي تُوّجت بحصولها على شهادة دكتوراه العلوم السياسية من معهد الدراسات السياسية في باريس، ومنها بدأت في بداية الثمانينات جهدها من مكانة أكاديمية وحقوقية، وهو ما سيترك بصمته على عقود حياتها التالية، خصوصاً في الاثني عشر عاماً الأخيرة التي عاشتها، وانخرطت خلالها في ثورة السوريين، واشتغلت على كثير من تفاصيل سورية، تتصل بالقضايا والموضوعات وبالناس من تجمعات وأفراد.
غير أن مسار سنوات ما بعد الثورة، بما فيها من زخم وعمق، لم يأت فجأة، إنما كان ثمرة تطور وتراكم معارف وخبرات، حفرت في الواقع العربي وفي علاقات كياناته الداخلية والبينية، إضافة إلى ما يحيط بالواقع من علاقات وبيئات فيها قضايا وموضوعات، قاربتها جميعاً عبر مهمات وأعمال، انخرطت فيها بسمة قضماني مع بداية الثمانينات، حيث دخلت المسار العملي من أستاذة في الجامعة إلى تأسيس قسم دراسات الشرق الأوسط في المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية في باريس، وتولي إدارته ما بين عامي 1981 و1998، ثم عملها في المكتب الإقليمي لمؤسسة «فورد» في القاهرة رئيسة لبرنامج الحَوكمة والتعاون الدولي بين عامي 1999 و2005، فاشتغلت في دعم وتمكين مراكز الأبحاث العربية ومنظمات المجتمع المدني، وهذا بعض من فيض جعل محصلة جهودها وتجربتها في مستوى صار يتطلب نقلة نوعية في اهتماماتها وجهودها من أجل عالم أفضل، يتركز الجهد فيه من أجل نقلات نوعية في الواقع المحيط ومنه الواقع العربي، فأطلقت مع رفاق آخرين مبادرة الإصلاح العربي في فرنسا عام 2005، وتولت مسؤولية المديرة التنفيذية للمبادرة عند تأسيسها، واستمرت في توليها حتى عام 2019، تجاوبت خلالها مع مساعٍ وجهود لإحداث نقلات إصلاحية في الواقع العربي، غير أن النتائج كانت محدودة بسبب ممانعة النظام العربي، وعجزه عن تفاعل إيجابي، وربما كانت الحالة السورية الأكثر وضوحاً في فشل مساعي الإصلاح خلال فترة ربيع دمشق وما تلاها من تضييق على الحراكين الثقافي والسياسي.
ورغم الطيف الواسع في اهتمامات بسمة قضماني، فإنها ركزت جهودها في الشق السوري من فصول «الربيع العربي»، وكانت بين المغتربين الأوائل الذين أيدوا وانخرطوا في ثورة السوريين 2011، فكرست انحياز مثقفي المغتربات إلى طموحات شعبهم، وكانت أحد تعبيرات تغيير مواقف الجاليات السورية من نظام الاستبداد، والاصطفاف ضد سياساته.
وكانت مشاركتها في مساعي خلق تعبير سياسي موحد للمعارضة السورية، الذي أنتج المجلس الوطني السوري في أواخر عام 2011 بين أبرز نشاطاتها، فتم اختيارها في مكتبه التنفيذي، وتولت مهمة العلاقات الخارجية والناطق باسم المجلس، وهذا بعض ما جعلها في دائرة الاستهداف، وسط أزمات ومشكلات كثيرة واجهت المجلس الوطني، وأخذ بعضها يتراكم في مواجهة بسمة بما تمثله من تميز وقدرات ونشاطات.
المجلس الوطني السوري باسمه وفي تعبيره المفترض عن ثورة السوريين ودوره في قيادتها، كان مؤسسة شعبوية فيها أقل قدر من السياسة والمعرفة السياسية، وكان مؤسسة ذكورية في الموقف من وجود ونشاط النساء رغم محدودية عددهن، والأهم مما سبق، أنه كان ساحة حضور وفعل واسع للإسلام السياسي الذي يصل توجه بعضه حد التطابق مع تعبيرات التطرف من الجماعات والأشخاص، وكله جعل من الصعب استمرار وجود بسمة في المجلس، خصوصاً أنه لم يكن في المجلس ما يمكن أن يشكل لها سنداً داعماً من الناحية الآيديولوجية أو السياسية، أو أي أشكال دعم أخرى، وهي التي أعلنت ملامح توجهاتها العامة في ثلاث نقاط: المدنية والاستقلالية والنسوية.
وتشارك كثيرون من قيادات وأعضاء في المجلس حملات هدفت إلى تشويه صورة بسمة ومواقفها بغية تحطيمها أو إخراجها من المجلس على الأقل تحت اتهامات مختلفة رخيصة وغير واقعية ولا موضوعية، وتوجت الحملات بمحاربة فكرة ترشحها لرئاسة المجلس الوطني عقب انتهاء الرئاسة الأولى للدكتور برهان غليون، مما دفعها للاستقالة من المجلس في أغسطس (آب) 2012 فخسر الأخير بخروجها منه أحد أفضل وأهم كادراته.
وإذ علمتنا التجربة السورية أن خسارة معركة تدفع البعض إلى الانكفاء والعيش في الظل، فإن «خسارة» بسمة معركتها من أجل سوريا في المجلس الوطني، لم تجعلها إلى انكفاء، بل جددت جهودها ومساعيها في كل مكان كانت فيه، كما في كل مكان استطاعت الوصول إليه، وقد يكون من المهم الإشارة إلى أنشطة عملت عليها بعد أن غادرت المجلس الوطني، أولها نشاط في إطار مبادرة الإصلاح العربي التي كانت تتولى إدارتها، والثاني مشاركتها نشاطاً في الحركة النسائية السورية، والثالث مساهمتها في أعمال الهيئة العليا للمفاوضات، والثلاثة كما هو مفهوم لا يقتصر النشاط فيها على النتائج المباشرة، التي يمكن القول إنها كانت متواضعة مقارنة بما هو مطلوب، بل يتعداها إلى مضامينها العميقة في التخطيط وبناء القدرات والتشبيك، والعمل على الأهداف وتقييم النتائج، وكلها بين ضرورات السوريين الراهنة والمستقبلية.
بسمة قضماني في جهدها العام، وفي عملها مع السوريين من أجل الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة، كانت نموذجاً عزَّ مثيله في أوساط نخبة من نساء ورجال ممن تصدوا للمسؤولية في العقدين الماضيين من الصعب أن تمحو أثرها حملات التضليل والتشويه، التي لاحقتها والناجمة عن رفض الاختلاف والغيرة والتنافس غير الشريف وحروب النخبة المأزومة. سلام ورحمة لروح بسمة قضماني.
*نُشر المقال أولاُ في صحيفة الشرق الأوسط ونعيد نشره في منصة وايتهاوس إن أرابيك بإذن من الكاتب.