عاش الملك!
الاستماع للمقال صوتياً
|
وايتهاوس إن أرابيك- شخصيات مؤثّرة
من على سريرها، بكل هدوء ووقار، ودّعت ملكة بريطانيا اليزابيث الثانية أفراد أسرتها المجتمعين حولها، وفئات شعبها، وغادرت الحياة٠
معظم التوقعات بشأن وراثة العرش الملكي اتجهت إلى تجاوز الأمير تشارلز ولي العهد إلى ابنه البكر الأمير ويليام لأسباب عديدة منها عدم شعبيته بسبب علاقته المضطربة مع زوجته السابقة الأميرة الراحلة ديانا، ثم زواجه غير المرضي عنه لاملكياً ولا شعبياً من كاميلا باركر. وأيضاً لعمره المتقدم (73 عاماً) وهو أقرب لسن التقاعد منه إلى تسلم مهام وظيفية جديدة، وقد يناسب هذا العمر ملكاً قديم العهد ولكنه لا يناسب بداية عهد ملكي. ويشار أيضاً إلى الأمير ويليام الذي أظهر مع دوقته الساحرة وأطفاله الرائعين موهبة العمل الملكي بطبعته العصرية٠
لكن التقاليد الدستورية الانكليزية أثبتت رسوخها وعراقتها واستقرارها فكان الانتقال سلساً وبروتوكوليا بعد عدة قرون من الاضطرابات والحروب الداخلية والتنازع على السلطة بين الأسر الحاكمة ثم بين الملوك ونبلائهم، ومع صعود طبقات شعبية منتجة جديدة تواقة إلى الحرية والمشاركة السياسية والاقتصادية، وبعد الارتقاء من ميثاق الحريات في العام 1100 إلى الماغنا كارتا في العام 1215 ثم الانتكاسات والفشل المتكرر، توصل زعماء وقادة الرأي والفكر في انكلترا إلى هذا النظام المنسجم مع النزوع البريطاني إلى الاستقرار والمتلازم مع نهوض صناعي اقتصادي فرض اندفاعاً إلى تخطي حدود الجزيرة واستعمار ما وراء البحار.
سمّي هذا النظام بالملكية الدستورية حيث الملك يملك ولا يحكم، بل تحكم المؤسسات المنتخبة والممثلة لكافة طبقات الشعب وتعبيراتها الاقتصادية والاجتماعية والقومية، مؤسسات خاضعة لمجموعة من القوانين العريقة والمتجددة في آن.
وهكذا تحولت العائلة المالكة، وعلى رأسها الملك أو الملكة، إلى رمز وطني يعبر عن استقرار البلد وتاريخه وتحكمه مجموعة مترابطة ومتشابكة من البروتوكولات والأعراف والتقاليد والمسؤوليات٠
ونجحت الديمقراطية الإنكليزية ولأول مرة في تاريخ المجتمعات البشرية في وضع حدود فاصلة بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ذلك الحل السحري والناجع والذي يمثل أرقى ما وصل إليه العقل المجتمعي البشري لإشكاليات الحكم والإدارة٠
فإذاً.. ملك يملك ولا يحكم، ورئيس وزراء تختاره الأكثرية البرلمانية المنتخبة من الشعب ولكنه
خاضع لمراقبة ومحاسبة البرلمان، وقضاء مستقل عن السياسة والسياسيين، وجيش محترف للدفاع عن البلاد لا يتدخل في السياسة٠
هذا النظام السهل الممتنع المسمى بالملكية الدستورية لاقى قبولاً واستحساناً، واعتمد كنموذج ناجح في باقي الملكيات الأوروبية كالنرويج والسويد والدانمارك وهولندا وبلجيكا، وكل هذه البلاد تعيش حالات متقدمة من الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي والرقي الاجتماعي والأخلاقي٠
هذا الموروث تركته الملكة الراحلة أمانةً بين يدي ولي عهدها الذي أصبح الآن الملك تشارلز الثالث٠
الملكة اليزابيث الثانية التي اعتلت العرش في سنها الخامس والعشرين تمتّعت بعمر مديد لإثبات نفسها، وهذا ما لا يتمتع به تشارلز الثالث وليس لديه هذه الفسحة من العمر مهما كانت أعمار البشر مديدة. وفي هذا تتجلى غاية وعبء التاريخ، ولذلك سيكتفي الملك الجديد من المهام بالقيام بإدارة الملكية لفترة انتقالية هادئة تكفي لنقله هذه المهام إلى الجيل الجديد بحالة سليمة،
ومن مزايا الملك تشارلز الثالث انفتاحه على الثقافات الأخرى وهو الذي درس الأركيولوجيا والأنثروبولوجيا والتاريخ في جامعة كامبريدج، وعبر عن آرائه التحررية حول المناخ والهندسة المعمارية الحديثة و ترحيل اللاجئين الروانديين والمحاصيل المعدلة وراثياً والطب البديل في رسائله التي كان يرسلها الى وزراء الحكومة البريطانية تحت مسمي العنكبوت الأسود.
ولكن المطلوب منه “دستوريا” الآن بحكم منصبه الملكي الاحتفاظ بآرائه الخاصة لنفسه فهو ملزم بالحياد وعدم التدخل في الشؤون المباشرة للحكم والإدارة.
الاستعمار البريطاني كان مثالا سلبياً صارخاً لغزو الشعوب ونهب ثرواتها والتدخل الفظ في شؤونها، ولكن الاستقرار الاجتماعي والمؤسسات الدستورية يجب أن تكون مثالا “إيجابياً” براقاً.
وفيما تتعلم الشعوب من الشعوب تجاربها الملهمة، يجب أن تبتعد عن التلوث بتجاربها المؤلمة.