الاستماع للمقال صوتياً
|
لبنان التاريخي يتغيّر وجهه بشكل دراماتيكي. البلد الصغير الذي كان يوصف في حقبة غابرة على أنه “سويسرا الشرق” افتقد أبسط مقوّمات تلك التوصيفات التي، على الرغم من سطحيتها في بعض الأحيان، إلا أنّها عكست جانباً من التقدّم الحضاري الذي تميّز به رغم صغر حجمه وضعف إمكانياته.
إذا كانت التشوّهات الإقتصاديّة بالغة الخطورة في لبنان ما قبل الحرب نتيجة غياب سياسات الإنماء المتوازن وطغيان إتجاهات الرأسماليّة المتوحشة دون ضوابط والاحتكارات وتقاعس الدولة عن القيام بأبسط وظائفها الإجتماعيّة؛ إلا أن ذلك لا يعني تبرير الانقضاض على الواقع القائم في البلاد لا سيّما لناحية حماية الحريّات العامة وتعزيز الشفافيّة والتمسك بالديمقراطيّة حتى ولو كانت هشّة وضعيفة.
إن الحاجة لتطوير الإقتصاد وإعادة بنائه وفق أسس جديدة ترتكز إلى تعزيز المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين وإخراجه من المستنقع السحيق الذي غرق فيه نتيجة السياسات الخاطئة والفساد وغياب آليات المحاسبة والمساءلة هي حاجة ملحة. والحفاظ على صيغة التعدديّة والتنوّع التي لطالما تميّز بها لبنان لا تقل إلحاحاً عن الاعتبارات الأخرى.
لقد صمدت فكرة الحريّات في لبنان على مدى عقود، ولو أنها تعرّضت إلى انتكاسات عديدة في الكثير من المنعطفات؛ ولكن قياساً إلى سيطرة الأنظمة القمعيّة والعسكريّة والديكتاتوريّة في العالم العربي تمتّع لبنان بمزايا قلما وُجدت في محيطه، ولعل هذا كان من الأسباب الرئيسيّة لإغراقه في الحرب الأهليّة ولإنهياره إقتصاديّاً وإجتماعيّاً جون أن يُسقط هذا الاعتبار- بطبيعة الحال- مسوؤليّة اللبنانيين المباشرة عن الوصول إلى هذا المأزق الرهيب.
اليوم، يتعرّض لبنان لتحديّاتٍ من نوع آخر تستهدف وجوده ورسالته ودوره وموقعه وهويته. تحديّات تتمثّل في سطوة أطراف إقليميّة من خلال أذرعها المحليّة على القرار الوطني اللبناني بعد الجهود الحثيثة التي بذلتها على مدى سنوات طويلة لإحداث إختلالات عميقة في موازين القوى السياسيّة الداخليّة، وهو ما تحقق بعد سلوكيّات تتنافى مع أبسط قواعد الديمقراطيّة والعيش المشترك والعمل الدستوري والمؤسساتي.
إن اختطاف القرار الوطني اللبناني المستقل أدّى ويؤدّي إلى جر لبنان نحو محاور ومواقع إقليميّة لا تتلاءم بطبيعة تركيبها وتكوينها مع الصيغة اللبنانيّة المرتكزة إلى التعدديّة. إنّها المحاور التي تستثمر الإنقسامات المحليّة في الساحات المختلفة لتنفذ من خلالها نحو بناء نفوذها وبسطه تدريجيّاً ليتمدّد نحو مؤسسات القرار السياسي فيعطلها حين تتطلب مصلحته ذلك، ويعيد تسييرها حين تتطلب مصلحته ذلك.
لقد أدّت المساعي المتواصلة لسلخ لبنان عن محيطه العربي إلى أكلاف باهظة على مختلف المستويات، فهو أصبح اليوم يعيش حالة عزلة تامة تقريباً بعد أن كان في قلب الحاضنة العربيّة وعلى تماسٍ معها في مختلف مستويات علاقاته الخارجيّة. لبنان، للتذكير، كان أحد أبرز الأعضاء المؤسسين لجامعة الدول العربيّة سنة 1945. ومهما كانت العثرات التي تعترض هذه المؤسسة، إلا أن الدور اللبناني في نشوئها كان أساسيّاً ومحوريّاً.
إن تعديل موازين القوى السياسيّة داخل لبنان هو المدخل الصحيح لاستعادة الدور الذي فقده جرّاء السياسات التي اعتمدت خلال السنوات المنصرمة، وإلا فإن لبنان مقبل على المزيد من الانهيارات التي تهدد وجوده وتنذر بعواقب وخيمة على مختلف المستويات. إن بقاء لبنان هو مصلحة للبنانيين والعرب، للشرق والغرب. إنه أكثر من وطن، إنه رسالة.
رامي الريّس: صحافي وباحث وأستاذ جامعي من لبنان، صدر كتابه الأول بعنوان: “قراءات في أزمات لبنان والمنطقة” سنة 2020. له العديد من المساهمات الفكريّة والسياسيّة في العشرات من الندوات والمؤتمرات والمقابلات التلفزيونيّة والإذاعيّة والصحافيّة.