الاستماع للمقال صوتياً
|
يلوم الكثيرون سياسات الحكومة الأميركية الخارجية ويتهمونها بافتعال النزاعات والتدخل في شؤون الدول الأخرى الداخلية دون أن تكون لهم في تلك الدول ناقة ولا جمل. فشريحة واسعة من الأميركيين تعتقد أن حروب دولتها في آسيا والشرق الأوسط التي شنتها تحت رايات نشر الديمقراطية وتحدي الدكتاتورية ومحاربة التطرف لم تؤدّ إلا إلى المزيد من الويلات والفقر والموت، ولم تفض إلى نصر أميركي مبين أو فائدة ملموسة على الشعب الأميركي أو على شعوب تلك الدول.
لكن في الوقت ذاته نرى نسبة كبيرة من الشعب الأميركي تؤيد سياسات بلدها وتظهر مقتنعة بضرورة أن تقوم الولايات المتحدة بمهمة شرطي العالم المتأهب دوما لفض النزاع وإغاثة المكلوم، بالرغم من كلفة الحروب الباهظة التي يدفعها المواطن الأميركي من أموال ضرائبه ودماء أقرانه.
ولا يخفى أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر قلبت مفاهيم الأمن الوطني الأميركي وبرهنت على أن المحيطات الشاسعة التي تفصل القارة الأميركية عن معظم دول العالم لم تعد عائقا أمام من يضمر الشر لأميركا وشعبها، لتصبح محاربة الإرهاب في عقر داره ضرورة لا مهرب منها، وليتسع نطاق الوجود الأميركي خارج الحدود بشكل غير مسبوق. لكن مفهوم الدور الأميركي الريادي في العالم ليس جديدا وهو سابق لتفشي آفة الإرهاب في القرن الحادي والعشرين بعقود، ومن الخطأ الاعتقاد أن الولايات المتحدة تشن حروبها فقط لضمان أمن مواطنيها.
ومن الخطأ أيضا تصوّر أن هذه الحروب أسبابها اقتصادية أو تجارية بهدف بيع السلاح أو السيطرة على الثروات. فأميركا دولة مترامية الأطراف وغنية بالثروات ومصادر الطاقة، كما أن أي جردة حساب بسيطة تثبت أن حروب أميركا لا تدر أرباحا، بل تتسبب في خسائر تقدر بتريليونات الدولارات تخرج من جيب دافع الضرائب الأميركي.
فإن كان الدافع ليس ماديا أو أمنيا بحتا، فكيف تبرَر هذه الحروب بل وتلقى قبولا في الداخل الأميركي؟ وكيف تتفاعل سيكولوجية وأيديولوجيا المواطن الأميركي العادي مع سياسة بلاده الخارجية هذه؟
يظهر مصطلح “الاستثنائية الأميركية” طاغيا في أي جدال حول هذه الأسئلة الصعبة. فهذه الفكرة التي يعود تاريخها إلى القرن التاسع عشر تعتبر جامعة للمفاهيم التي تميز التجربة الأميركية والتي يؤمن الأميركيون بأنها ولّدت الدولة الأنجح ونظام الحكم الأنجع في العالم. وبالرغم من عدم وجود تعريف أكاديمي مبسط لنظرية الاستثنائية الأميركية فإن هناك إجماعا على أن الفكرة تعني أن الولايات المتحدة متميزة عن جميع الدول الأخرى بسبب مكونات النظام الأميركي المتفردة والتي تجتمع فيها مفاهيم الحرية والتساوي أمام القانون والديمقراطية التمثيلية والدور المحدود للدولة واقتصاد السوق الحر.
ومن غير المستغرب إيمان الشعب الأميركي العميق بهذه الأفكار التي أصبحت أساسا متينا لدولة قوية وفّرت لشعبها الرخاء والعيش الكريم. لكن إمكانية تصدير هذه التجربة لم تتبلور بمفهومها الحديث إلى أن شاركت الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية وحققت فيها نصرين كبيرين، نصرا عسكريا على النازية لا غبار عليه تلاه نصر فكري واقتصادي حين قامت خطة مارشال باستثمار ما لا يزيد عن 13 بليون دولار (ما يقارب 170 بليون دولار اليوم بعد مراعاة التضخم) لتنجح في إعادة أوروبا خلال سنوات من قارة أنهكتنا الحروب إلى قطب صناعي وتجاري وفكري.
ثم أتى مشروع الاتحاد السوفييتي لتصدير الأفكار الشيوعية التي رأت أميركا فيها أعرافا معادية لأسس الاستثنائية الأميركية، فخاضت أميركا حربها الباردة مع السوفييت لتثبت في نهاية المطاف تفوق نظامها وعقيدتها مرة أخرى.
وما الحرب على الإرهاب إلا استمرار لهذا النهج الأميركي في الدفاع عن مبادئه. فالجماعات الأصولية الإرهابية التي هاجمت أميركا في سفاراتها ومصالحها أولا، ثم في عاصمتيها السياسية والإقتصادية، أظهرت علنا سعيها لمحاربة أسلوب الحياة الأميركي مما ساهم بشكل واضح في التأييد الداخلي الواسع للحرب على الإرهاب.
لكن نجاح أميركا في تصدير تجربتها ارتبط دوما بقدرتها على تحقيق انتصارات عسكرية أو سياسية ملموسة على الأرض حسب المقولة الأميركية الشهيرة “لا بديل عن النصر”، وهذا لم يتحقق منذ زمن. فبعد انتصاراتها محدودة النطاق في حرب الخليج عام 1991 وحروب البلقان نرى تعثر أميركا واضحا في حروبها المباشرة في أفغانستان والعراق، وغير المباشرة كالتي تُشن اليوم في سوريا على سبيل المثال. ولم يكن فشل الربيع العربي في إفراز حكومات متوافقة مع الولايات المتحدة فكريا وسياسيا إلا درسا ملخصه أن عدو العدو ليس صديقا بالضرورة، وليست كل الشعوب جاهزة للانغماس في خطة مارشال جديدة.
في الوقت ذاته يصعب إقناع دولة عظمى ترفع الشعارات السامية واستطاعت منذ أمد غير بعيد فرض سيطرتها على العالم بعدم قدرتها على إحداث التغيير الإيجابي في دول شبه مدمرة عسكريا واقتصاديا وحتى اجتماعيا. ومن شبه المستحيل أن يستوعب الفرد الأميركي سبب مقابلة قواته التي زحفت شرقا حاملة خلاصة التجربة الأميركية الفريدة بالشجب والتنديد تارة وبالرصاص والمفخخات تارة أخرى.
وقد يرى القارئ في هذه العقلية سذاجة لا تليق بدولة عظمى، لكن هذا التصور العذري للعالم هو بالفعل أحد مكونات فكر الاستثنائية الأميركية المبني على مبدأ التصرف بما يعتقد أنه الصحيح بغض النظر عن الكلفة أو التحديات.
فعندما خاطب أحمد الجلبي الأميركيين قبيل اجتياح العراق وصور لهم استقبال شعب العراق لجيشهم بالورود بدا ذلك آنذاك منطقيا ومعقولا جدا بالنسبة إلى الأميركي العادي، فأميركا ستدخل العراق لتخليص مواطنيه من بطش صدام حسين وهيمنة حزب البعث. وبعد أن اصطدم هذا التصور العذري للأمور بواقع مغاير في العراق في الأيام الأخيرة من معركة التحرير شنت القوات الأميركية معركة أخرى مختلفة سميت بمعركة العقول والقلوب هدفها إقناع المواطن العراقي بنبل الأهداف الأميركية تجاهه ومواجهة بروباغندا إيران وفلول البعث. ولم تدرك الولايات المتحدة مجدداً صعوبة مهمتها، فالأميركي ينظر للأمور ببساطة مبالغ فيها حيث لم تتوال عليه الحكومات الظالمة ولا الاحتلالات الغاشمة على مدى عصور.
والآن، وبعد مضي 18 عاما على سقوط نظام صدام حسين، ما زالت الولايات المتحدة مقتنعة بأن تصورها للعراق الجديد سيصبح حقيقة رغم كل الدلالات الملموسة التي تثبت عكس ذلك، وأن كل ما تحتاجه أميركا هو فترة وجيزة من الاستقرار لتثبت فاعلية مشروعها في تحقيق الرخاء والاستقرار.
ورغم وجودها الواسع في المنطقة الذي تجاوزت فترته العقدين لم تدرك الولايات المتحدة بعد حجم التشابك في المعادلات السياسية في الشرق الأوسط والتي تشكل التكتلات الطائفية والولاءات العشائرية وضغائن الماضي والمصالح الآنية أبرز عواملها. وفي الوقت ذاته يزداد الوضع تعقيدا، فعشية تفهمها للعداء بين مشروع إيران الشيعي وعقيدة المجموعات التكفيرية السنية، على سبيل المثال، تكتشف أميركا أن طهران أضحت ملاذا آمنا لعناصر تنظيم القاعدة وقياداته.
من الواضح اليوم أن أهداف الولايات المتحدة في المنطقة أصبحت صعبة المنال دون تغيير واسع النطاق لقواعد الاشتباك، أو إعادة النظر في إستراتيجية فرض التغيير دفعة واحدة وبسرعة مبالغ فيها في بيئة ليست ملائمة أساسا. وعلى أميركا التفكير معمقا في ما إذا كان لديها الصبر والبراغماتية الكافيان لتصدير أسس الاستثنائية الأميركية إلى منطقة لم تلامس هذه الأفكار إلا في كتب الروايات، وتلقّنت شعوبها العداء الأعمى للغرب على مدى عقود. وما يزيد المهمة صعوبة الآن هو مساهمات الدول المعادية للولايات المتحدة في زعزعة أمن المنطقة وتغذية اقتصاد الإرهاب ودعم أحزاب وأفراد تولى لهم مهمة عرقلة المشروع الأميركي ووضع العصي في عجلة التغيير.
لكن رغم كل المعوقات لم تنسحب أميركا من المنطقة بعد. ومع أن جيوشها ودبلوماسيتها تبدوان منهكتين ما زالت اليد الأميركية ممتدة باحثة عن شريك أحلامها في الشرق الأوسط. فهل تجد مبتغاها في جيل قيادي جديد من الشباب العرب الذين يرفضون العنف ويسعون لحياة أفضل في بلادهم ولهم القدرة على حمل وزر خطة مارشال جديدة؟ أم ستستمر دوامة الحروب والدكتاتوريات في منطقة ينهمك حكامها في سرقة خزينة المال وبناء السجون؟