مقال الرأي

فنلندا والسويد، في حكمة الهروب إلى الأمام

بقلم د. سمير التقي

الاستماع للمقال صوتياً

أيام الحرب الباردة، بنت هلسنكي وفنلندا، سياستهما القومية على مبدأ الحياد والابتعاد عن الوقوع في تقاطع نيران التنافس السوفياتي الأمريكي. لكن قعقعة السلاح على حدود أوكرانيا، وشاشات الرادار الممتلئة بالقاذفات والطائرات الهجومية الروسية وصور الأقمار الصناعية التي تظهر نقل القوات من مسافات بعيدة نحو حدود أوكرانيا، ناهيك عن تدفق الصواريخ البالستية المتوسطة المدى إلى حدود الحلف الأطلسي، أشعل جدلا حثيثا، في هاتين العاصمتين حول حكمة الاستمرار في سياسات عدم الانحياز.

بعد الحرب العالمية الثانية قبلت روسيا استقلال فنلندا، شرط امتناعها عن الاندماج في حلف عسكري غربي. وحافظت فنلندا على حيادها طوال حتى انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991. وسرعان ما تمكنت هلسنكي من التحرر من الشروط الروسية وانضمت البلاد إلى الاتحاد الأوروبي في عام 1995،لكنها لم تقدم على الدخول في حلف الأطلسي.

من جهتها، السويد، التي ليس لديها حدود مشتركة مع روسيا، فإنها تشهد بقلق كبير الحشود الروسية في مدينة كالينينغراد التي تقع على بعد حوالي 300 كيلومتر من جزيرة غوتلاند السويدية. وهو ما يهدد جواً وبحراً المراكز الحضرية السويدية الرئيسية، بما في ذلك العاصمة ستوكهولم.

علما ان كالينينغراد هي مدينة روسية، ألمانية الأصل، تقع في قلب البر البولوني، وتعد من أكثر المناطق تسليحا في أوروبا، الامر الذي يجعل منها منفصلة عن البر الروسي، لكنها الآن منصة لمد النفوذ في عمق البلطيق والبلدان النوردية.

لا شك ان إتباع السويد الطوعي لعدم الانحياز، بعد عام 1809، قد عاد بمنافع كبيرة على هذه البلاد. لكن السويد، وبالرغم من تاريخها الحيادي، سارعت للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي فور تفكك الاتحاد السوفياتي. بل وشجعت ودعمت السويد انضمام دول البلطيق الثلاث المستقلة حديثا، لتوانيا واستونيا ولاتفيا، لحلف الأطلسي، في حين احجمت هي بالذات، عن فعل ذلك، كما فعلت فنلندا.

لكن مع تصاعد الميول التدخلية والتوسعية لروسيا، وجد هذين البلدين المسالمين نفسيهما مجبرتين على بناء شراكة متنامية مع الحلف الأطلسي. وبالرغم من استمرار قولهما بعدم الانحياز، فانهما، تتشاركان القلق من التهديدات الروسية وتشاركان بشكل نشط في المناورات المشتركة والبحوث العلمي وتدريبات إدارة الكوارث للحلف الأطلسي. الدافع في ذك هو استمرار الضغط والتعديات الروسية، سواء حدود فنلندا او من خلال النشاط البحري والجوي الروسي في البلطيق. إضافة إلى ذلك، تتمتع هاتين الدولتين بعلاقات ثنائية عميقة مع أعضاء حلف شمال الأطلسي مثل النرويج، والمملكة المتحدة والولايات المتحدة.

بل، نستطيع القول، انه تحت الضغوط الإقليمية الروسية، أصبحت هاتين الدولتين، من الناحية العملية، مندمجتين بإحكام في التحالف الغربي والمؤسسات الغربية، ليضمحل تدريجيا موقفهما المحايد، حيث لم يبق منه إلا حقيقة انهما لم تنضما للحلف، وليستا مشمولتين بالتالي في المادة 5 لميثاقه، والتي تطلق تلقائيا آليات الدفاع الجماعي في حال أي هجوم روسي.

وفي كل الأحوال، لا شك ان قيادة الحلف ترحب بقوة بانضمام هذين البلدين اليه.

إذ، على العكس من غالبية دول الحلف، لم تخفض هاتين الدولتين، وتحت الضغط العسكري الروسي المستمر، بشكل كبير الإنفاق العسكري بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. بل احتفظت هلسنكي وستوكهولم بجيوش مدربة تدريبا جيدا، ومجهزة بأرفع التقنيات. وحقيقة الامر ان السويد تنتج وتصدر بعضا من أرقى الأسلحة في العالم. كل ذلك يجعل من فنلندا والسويد أكثر توافقا مععقيدة حلف شمال الأطلسي من معظم الدول الأعضاء الراهنين في الحلف.

في حال انضمامها، سيتحول بحر البلطيق إلى بحيرة يهيمن عليها الحلف، الامر الذي سيكون له تداعيات جدية بالنسبة لروسيا. ذلك ان قسما هاما من تجارة روسيا وخطوط طاقتها تمر عبر هذا البحر. كما ان ذلك سيعزز بشكل كبير القدرات اللوجستية للناتو تجاه ليتوانيا لاتفيا واستونيا في مواجهة التهديدات القادمة من كالينينغراد. وبالمقابل، في حال استمرت روسيا في سياساتها غير الودية في إقليم البلطيق، فلن يكون لروسيا من خيار سوى تضخيم إنفاقها العسكري إلى مستويات غير مسبوقة

والان، يثير منظر الحشد العسكري الروسي الذي يطوق أوكرانيا، وذكريات الاحتلال السوفياتي لدول البلطيق، جدلا واسعا في العاصمتين.

فلقد أوضحت روسيا ما تريده بشكل كاف من خلال عدد من المذكرتين اللتين قدمتهما للحلف والادارة الامريكية. انها تتطلع ببساطة لإعادة الوضع الاستراتيجي في أوربا إلى ما كان عليه أثناء الحرب الباردة، وان يقوم حلف شمالي الأطلسي بإزالة كامل البنية التحتية العسكرية التي رسخها في بلدان أوروبا الشرقية بعد عام 1997، كما تطالب بعدم قيام الحلف بأي نشاط عسكري خارج اراضيه في اوربا الشرقية، واسيا الوسطى، وأوكرانيا، وجورجيا، وأرمينيا، وأذربيجان. وتريد موسكو ان يكون لها “حق النقض الفعال” تجاه السياسات الخارجية والأمنية للدول التي تفترضها ضمن فلكها الاستراتيجي، وأن تحجم الولايات المتحدة عن تطوير تعاون عسكري ثنائي مع هذه الدول”. بل تطالب روسيا بأكثر من ذلك، وبان “تحجم عن نشر اسلحة او قوات خارج اراضيها ” حيثما تعتقد روسيا أن هذا الانتشار تهديد لأمنها القومي”.

المعضلة في هذه المطالب ليست في عدم واقعيتها الراهنة فحسب، ولا في ابعادها العسكرية والاستراتيجية. ففي نهاية الامر ليست لدى أحد اية رغبة في تهديد روسيا او رفع مستوى الردع ضدها. وحتى حين كانت روسيا في أضعف لحظاتها، لم تقدم الدول الغربية على محاولة غزوها. لكن المعضلة تكمن في المطالب العسكرية الاستراتيجية الروسية حيث تحاول ان تنفرد روسيا بتغيير النظام الدولي القائم في أوربا، وتبديل ميزان الردع فيها، بحيث يمكن تدريجيا توسيع المظلة الاستراتيجية الروسية لتعيد التفافها على عنق اوربا الشرقية. إنها تعمل على تحقيق ذلك من خلال تطوير انماط جديدة من الأسلحة الصاروخية خارج أطار معاهدات ضبط الصواريخ، بل إنها، عمليا، تحاول تبديل موازين الردع الاستراتيجي في اوربا إلي مستويات خطرة. ولا يمكن لا للولايات المتحدة ولا لأوربا ان تتجاهل هذه المخاطر.

أما وأن روسيا تنتقل لمواقف أكثر عدوانية، فان هاتين الدولتين تعيدان التفكير فيما إذا كان الاستمرار خارج الحلف يبقى أكثر أمانا. ولقد انضمت وزارة الخارجية الروسية إلى التهديدات بالقول “إن انضمام فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي ستكون له عواقب عسكرية وسياسية خطيرة تتطلب ردا كافيا من الجانب الروسي”. فالمطلوب ان تواجه هاتين الدولتين التهديدات الروسية دون حيلة او ردع.

لكن الرأي العام هو قوة ديناميكية تتأثر كثيرا بالأحداث في الجوار الجغرافي. فأزمة روسية مع تركيا قد لا تثير الكثير من الجدل في هذه البلاد، ولكن عندماتولد روسيا صراعا مع أوكرانيا، فإن الجغرافيا والمسافة الثقافية تولد أوتوماتيكيا، تبدلا في مزاج الرأي العام.

هذا يعني أنه كلما طالت الأزمة في أوكرانيا، سيتصاعد ضغط الرأي العام، للدفع نحو عضوية الحلف. ولا شك ان القضية ستتفاقم قبل الانتخابات العامةالمقبلة في البلدين. وفي بلاد مثل السويد وفنلندا، لا يمكن تجاهل وجهات نظر الأغلبية البرلمانية حول السياسة الخارجية. ويبدو بفضل التهديدات الروسية سنرى عاجلا أم آجلا تحولا مكشوفا او مستورا نحو الانضمام، بعد ان اثبت بوتين ان سياساته لا يمكن التنبؤ.

تعلمنا التجربة مرة أخرى أن استراتيجية تجنب الاشتباك التي لا تأخذ بعين الاعتبار مستوى التهديدات في المحيط الاستراتيجي، تصبح لقمة سائغة، لأكثر جيرانها قسوة.

د. سمير التقي

خبير سياسات الشرق الأوسط | مستشار في الدراسات الجيوستراتيجية | طبيب جراحة القلب
زر الذهاب إلى الأعلى