مقال الرأي

مآلات فيينا القاتمة

بقلم د. سمير التقي

الاستماع للمقال صوتياً

النهار العربي/ وايتهاوس ان أرابيك

على مدى عقود، تزعم إيران أن أبحاثها النووية لأغراض سلمية، وتدعم ذلك بفتوى المرشد الأعلى. لكن من يطّلع على الوثائق التي كُشف عنها في طهران، سيرى إشارات صريحة لبرنامج عسكري، حيث صمم من البداية لتطوير خمسة أسلحة ذرية ثم يتوسع إلى عشرات الأسلحة.

من الناحية الفنية، ليس ثمة معنى لجزء كبير من البرنامج حتى لو كان مدنياً. الغالبية العظمى من البلدان التي لديها برامج للتخصيب لا تستخدم مفاعلات الماء الثقيل، ولا تخصّب قطعاً البلوتونيوم. وكما توضح الوثائق، فإن البرنامج يتضمن تصميمات للرؤوس الحربية النووية. فلماذا تُصرف مليارات الدولارات على تطوير البرامج العسكرية؟ وكيف لها أن تقلع عن إنتاجها؟

فيما تقترب المفاوضات من نهايتها بإعادة التزام الولايات المتحدة بالاتفاق النووي، ثمة عناصر غير مشجعة تنبعث من خلف غرف التفاوض في فيينا. لقد اعترف الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في مقابلة مع جيفري غولدبرغ في صحيفة “الأتلانتيك”، “بأنه في واقع الأمر، وبحلول العام الثالث عشر من الاتفاق، سيكون لدى إيران صفر اختراق نووي”. بمعنى أن الفرصة الزمنية التي ستكون متاحة للمجتمع الدولي وللولايات المتحدة للقيام بردة فعل إذا أقدمت إيران على الانتقال من البرنامج النووي السلمي نحو الإنتاج الفعلي للقنبلة النووية ستكون صفراً!. وسيصبح بمقدور إيران أن تنتقل من المسار المدني للعسكري خلال ساعات أو أيام”.

وبذلك، يعترف أوباما بأن ما يسمى خطة العمل الشاملة المشتركة تتضمن في داخلها عيباً قاتلاً، حين ستتلاشى القيود في سنة 2029، لتخرج إيران ببرنامج نووي صناعي مع قدرة لحظية لتذخيره عسكرياً.

لقد استبدلت إدارة بايدن سياسة الضغط الأقصى بسياسة القبول القصوى. ولتبرير ذلك يقدم أنصار الاتفاق جملة من الاعتبارات، أولها: أن إيران ليست موضوعياً عدواً ونداً جدياً للولايات المتحدة، لذلك يجب معالجة مخاطر البرنامج الإيراني في سياقه الإقليمي. ثانياً: من المعروف أن إيران قد تمكنت، رغم العقوبات، من تسريع منقطع النظير لبرنامجها النووي بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق. وبالتالي، فإن الانسحاب لم يساعد إلا في إطلاق يد المتطرفين في إيران لتسريع البرنامج من دون رقابة الحد الأدنى من وكالة الطاقة. ثالثاً: تستبعد الولايات المتحدة منذ مدة كل الضغوط الإسرائيلية لدعم احتمال السيناريو العسكري ضد المنشآت النووية الإيرانية، من منطلق أن أي ضربة، مهما تكن واسعة، ستؤخر التطوير العملي للبرنامج، لكنها لن تدمّر البنية المعرفية التي تحققت للبرنامج. ومما لا شك فيه أن حالة الاضطراب السياسي الكثيف، الذي عصف بإسرائيل في السنوات الأخيرة، ومراهنة بنيامين نتنياهو المطلقة على النجاح الثاني لدونالد ترامب، وصداقاته العميقة مع فلاديمير بوتين، لم تساعد في تقوية حجة إسرائيل في البيت الأبيض. الحجة الرابعة، تقول إنه على افتراض أننا سنواجه بعد سنوات احتمال أن تصبح إيران قادرة على إنتاج القنبلة، فينبغي التركيز على التفاوض معها لتبقى من الدول المصنفة “دول القنبلة على الرف” مثل ألمانيا وكوريا الجنوبية وغيرها، بدلاً من دفعها نحو إنتاج القنبلة.

لكننا سرعان ما نكتشف أن معظم جهود التوسع النووي الإيرانية حدثت بعد انتخاب جو بايدن. فقد وسّعت إيران برنامجها النووي تدريجياً بعد أيار (مايو) 2018، ولكن بعد انتخاب بايدن، أصبح من الواضح جداً للإيرانيين أن جو بايدن كرئيس للولايات المتحدة سوف يتحول من أقصى قدر من الضغط إلى أقصى قدر من القبول. هكذا تدور النقاشات بين أخذ ورد في واشنطن.

زبدة الكلام أنك حين تفاوض تاجراً على صفقة يمكنك أن تكتفي بالدبلوماسية، ولكنك حين تفاوض جمهورية إيران الإسلامية على برنامجها النووي فأنت تحتاج إلى تعزيز صدقية الولايات المتحدة برفع مستوى الردع.

هذه الصدقية الردعية تضررت عبر السنين كثيراً. وهناك شكوك جدية في استعداد الولايات المتحدة لتحويل قدراتها العسكرية المهولة إلى ردع حقيقي. الأهم من ذلك أن الإيرانيين بالتأكيد يعتقدون بقوة، أن الردع الأميركي يتلاشى، لذلك فهم يتدللون على مزاجهم. ويكرر الإيرانيون هذه الحجة في الشرق الأوسط منذ انسحاب المدمرة نيوجيرسي من بيروت، لكن مما لا شك فيه أن الانسحاب الكارثي من أفغانستان عزز هذا الشعور، حيث رأوا فيه تعبيراً واضحاً عن عدم رغبة جو بايدن في استخدام القوة العسكرية الأميركية.

لقد قال ملك بروسيا فريدريك العظيم “إن الدبلوماسية بدون أسلحة تشبه الموسيقى بدون آلات”، وبدون ردع موثوق. لن يكون الدبلوماسيون الأميركيون قادرين على تحقيق أي نجاح، وبدون دبلوماسية ناجحة، وبغض النظر عن نتائج المفاوضات الحالية، لن يكون هناك ثمة حل مجدٍ لبرنامج الأسلحة النووية الإيراني. ستكون الأسلحة النووية الإيرانية كارثية على المنطقة، وعلى الأمن القومي الأميركي. وفي حين أن لا أحد في واشنطن يريد أو يروّج لضربة عسكرية، فإن وجود الخيار العسكري الموثوق جوهري من أجل تحقيق مسار تفاوضي سلمي حقيقي.

على الصعيد الإقليمي، سيكون السلاح النووي الإيراني كارثة استراتيجية بكل معنى الكلمة لأسباب عدة. ففي أحلك ظروف الحرب الباردة، أمكن تفادي الصدام النووي بسبب وجود قيادتين في موسكو وواشنطن تعرفان بعضهما البعض وليس لديهما تصورات أسطورية حول النصر بأي ثمن. وكانت آلية اتخاذ القرار النووي شفافة، معروفة للطرفين، ويمكن متابعتها والتواصل معها. ورغم ذلك اعتبر جون كنيدي أن “خطر الحرب النووية إبان الأزمة الكوبية كان 50%”.

الوضع في حال إيران أخطر بكثير. فليس رئيس الجمهورية الإيرانية من يقرر، ولا مجلس مصلحة النظام، ولا المرشد الأعلى وحده. رأس القرار غامض وآليته غامضة. والأهم من ذلك أن انتشار النووي في هذه المنطقة التي تعج بالحروب الأيديولوجية وبالضغائن التاريخية ستجعل الخيارات العسكرية التقليدية مساوية للصفر. بمعنى أنه في حال حصول عدوان من إيران، فإن كل أشكال الرد التقليدي الممكنة عليها تصبح صفراً، ويصبح الشكل الوحيد المتاح للردع هو سلاح نووي مقابل. لذلك سيهرع الكثيرون نحو هذا الردع.

كان يفترض أن يكون السلاح النووي مآلاً غير قابل للتصور كموقف تفاوضي أميركي حاسم في فيينا، ولكنه تحول الآن لما يوصف بأنه أمر “غير مقبول ما دام بايدن رئيساً”. ألا أطال الله عمرك يا بايدن!

د. سمير التقي

خبير سياسات الشرق الأوسط | مستشار في الدراسات الجيوستراتيجية | طبيب جراحة القلب
زر الذهاب إلى الأعلى