مقال الرأي

المغص الإيراني في العراق

بقلم د. سمير التقي - خاص وايتهاوس ان أرابيك

الاستماع للمقال صوتياً

بصعوبة كبيرة تخفي إيران انزعاجها العميق مما يحصل في العراق. فبعد عقدين من الزمن بدا فيهما العراق عجينة في يد إيران، بدأت الأمور تتغير. صادقت المحكمة العراقية العليا على الانتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر، ورفضت طعون الفصائل الشيعية المدعومة من إيران ضد نتائج الانتخابات.

عقب تأجيل أكثر من شهرين، يمهد هذا التصديق الطريق أمام برلمان جديد لعقد جلسته الافتتاحية في غضون أسبوعين، بموجب القانون العراقي. وكانت الفصائل المدعومة من إيران، بما في ذلك الجماعات المسلحة القوية، قد زعمت حدوث مخالفات في الانتخابات والتي بلغت نسبة المشاركة فيها 41٪. السؤال الجوهري الذي يتبع هو، ما هي الخطوة التالية بالنسبة للعراق؟ إذ يمهد هذا التصديق الطريق أمام تنصيب برلمان جديد وتشكيل حكومة جديدة تحل محل حكومة الكاظمي.

لقد تكبدت الكتل والأحزاب الموالية لإيران خسائر كبيرة، وكرد فعل، قامت باحتلال مناطق قريبة من المنطقة الخضراء في بغداد منذ أكثر من شهرين. الهدف من هذا الاحتلال، تشكيل قوة ضغط إضافية على المحادثات بين الاحزاب والكتل السياسية الشيعية والسنية والكردية للتوافق على تشكيل البرلمان القادم ورئيس الوزراء الجديد ورئيس البرلمان الجديد.

كان الفائز الأكبر في هذه الانتخابات الحركة التي يقودها الزعيم الشعبوي الشيعي مقتدى الصدر، المعارض للنفوذ الإيراني والامريكي في العراق، والتي فازت ب 73 مقعدا، أي أكثر من أي مجموعة أخرى في مجلس النواب المنقسم الذي يضم 329 مقعدا.

تفتح هذه التوترات داخل النخبة السياسية الشيعية الباب أمام ترتيب سياسي جديد سيخلق مناخا يحمل تغييرات في المعادلة السياسية العراقية. فلقد أشار الصدر بالفعل إلى أنه لن يتعامل مع بعض الجماعات داخل حركة فتح وحزب دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، يسعى بدلا من ذلك إلى “حكومة أغلبية وطنية” من خلال اتفاق مع القوى السياسية السنية والكردية الرئيسية.

من المعلوم أن منصب الرئيس العراقي خصص لممثل عن الأكراد من خلال اتفاق لتقاسم السلطة مع السنة والشيعة. في هذا السياق عزز الحزب الديمقراطي الكردستاني موقعه، وصارت فرص التوافق الكردي أكبر بعد عقدين من التنازع المرير بين الأحزاب. في حين حصلت الكتل والاحزاب السنية على حوالي 70 مقعدا، ولكنها، على عكس الأحزاب الكردية، لا تتمتع بهذا القدر من السلطة على الأرض ولا تدير المناطق السنية المنقسمة مباشرة.

يتيح نجاح جهود الصدر في إنشاء حكومة مستقرة للمكونات الأخرى للشعب العراقي، مشاركة أكبر في صنع القرار، وتحسين أدائها السياسي حول القضايا الشائكة. كما أن زيادة نشاط داعش في المناطق السنية والكردية تجعل التنسيق الأمني فيما بينها أكثر ضرورة، لكن ذلك يجب أن ينطوي على تدابير لضبط وتحجيم الميليشيات الموالية لإيران المنتشرة حاليا في مناطق نشاط داعش.

تجري هذه الأحداث على وقع عدد من التحولات والتطورات تشكل خلفيتها العامة. التطور الأول هو إنهاء المهام القتالية للقوات الأمريكية في العراق، الامر الذي أوضح ثقة الولايات المتحدة بمستوى تطور وتعاون القوات العراقية في مجابهة الإرهاب ويفتح الباب لعهد سياسي أمريكي مغاير في العراق، يستند أساساً على القوة الطرية والدبلوماسية.

التطور الثاني هو الاحتجاجات الشعبية المتصاعدة على المستوى المحلي والوطني ضد الميليشيات الموالية لإيران والمستشرية في عمليات البلطجة والفساد التي تغرق البلاد، في وقت تتصاعد فيه بطالة الشباب وتزداد ملامح الازمة الاجتماعية احتداما. ذلك أن نمط الإدارة المافيوية والمحسوبية ونهج المحاصصات السياسية أوصلت العراق الغني بثرواته إلى الحضيض من حيث مؤشرات التنمية وخاصة في مجال الشباب. وتشكل حركة الشباب التي تتجاوز الجروح الطائفية العميقة للحرب لتعيد طرح مجمل نموذج الدولة الذي أسسته القوى الشيعية الموالية لإيران. ثالثا: مفاوضات الملف النووي الإيراني الذي ستنعكس ارتداداته بشدة على موقف إيران الإقليمي بغض النظر عن نتائج التفاوض. رابعا، تصاعد النشاطات الإرهابية “للدولة الإسلامية” واكتسابها لموطئ قدم في عدد من المناطق العراقية.

خلاصة الأمر، بعد عقدين من هيمنة كبيرة لإيران على إدارة الساحة السياسية العراقية، يتجلى فشلها الكبير في بناء تنمية مستدامة معقولة وسلم أهلي في العراق، وها هي تجد أن القوى الشيعية الفاعلة لا تتطابق مع تصورات إيران لمستقبل البلاد، في حين أصبح الشباب الوطني الذي خاض انتفاضة 2018 أكثر تطلبا وأقرب لتعزيز دوره السياسي.

لذلك تشكل دعوة الإمام مقتدى الصدر لحكومة أكثرية بداية لكسر معادلة الجمود على الموجود، ومنع تكريس حالة انهيار الدولة الوطنية العراقية. ورغم أن طريق التعافي والسلم الأهلي والمشاركة الفاعلة لكل مكونات الشعب العراقي لا تزال بعيدة عن التحقق بشكل مرض، فإن كسر حلقة الفساد والهيمنة التي أسستها وأحكمت بناءها القوى الموالية لإيران، تشكل خطوة هامة على هذا الطريق. وتشعر الآن القوى الموالية لإيران بهذا المغص السياسي الذي لا تجد تصريفا له إلا بالمزيد من التفجيرات والاغتيالات.

ليس هذا فحسب، بل ان الزيارة الحالية لقاآني، خليفة قاسم سليماني، كرئيس للحرس الثوري الإيراني، للعراق ولمرجعياته خاصة، حملت من التهديد أكثر بكثير من عناصر التوافق، مما يشير بوضوح إلى الحنق الإيراني، والذي يترجم حاليا بمزيد من الأعمال المزعزعة للاستقرار.

طورت الولايات المتحدة أدوات دبلوماسية وسياسية ساهمت في تشجيع جزء هام من هذه التطورات الإيجابية، التي لا يمكن أن تستكمل، من دون تشجيع دبلوماسي امريكي فاعل. لكن القوى الوطنية العراقية تشعر بقلق جدي خاصة من ملامح الانفكاك الأمريكي عن الإقليم والعراق، وبشكل أخص، فيما يتعلق بلجم الميليشيات الموالية لإيران. لقد نجحت الولايات المتحدة في الحرب المدمرة على ارض العراق لكنها تتحمل ولا شك الكثير من المسؤولية عما بعد “انجاز المهمة”.

د. سمير التقي

خبير سياسات الشرق الأوسط | مستشار في الدراسات الجيوستراتيجية | طبيب جراحة القلب
زر الذهاب إلى الأعلى