الاستماع للمقال صوتياً
|
استهل الرئيس الأميركي جوزيف بايدن عهده بتحرك عسكري استثنائي قلّ ما يلجأ إليه الرؤساء الأميركيون في حديث عهدهم بالبيت الأبيض خشية ردود الفعل المحلية والدولية التي يمكن أن يشكلها أي تحرّك عسكري أميركي في العالم – ولو جاء محدوداً – وما سيحمله تالياً من تبعات على الإدارة الجديدة خلال فترتها الرئاسية الأولى التي تمتد أربع سنوات. هذا التوجّه هو سواء،عند الديمقراطيين والجمهوريين من الرؤساء في آن، وفي الحالة الديمقراطية يكون عادة أشد دقّة وحذراً نظراً إلى طبيعة الأدوات السياسية التي يلجأ إليها الرؤساء من الحزب الديمقراطي والتي تعتمد بصورة رئيسة على القوة الناعمةوالدبلوماسية الطويلة النفس.
ففي تاريخ 25 شباط/فبراير من العام 2021، شنّت القوات العسكرية الأميركية بناء على توجيهات من الرئيس بايدن ضربات جوية استهدفت مواقعاً في شرق سوريا بالقرب من الحدود العراقية السورية تتبع للميليشات المقاتلة هناك والمدعومة مباشرة من إيران. إلا أن هذا التحرّك لاقى استنكاراً كبيراً من الأغلبية الديمقراطية في الكونغرس إلى درجة طرح مشروع قانون يمنع الرئيس من اتخاذ أي قرار قتالي دون الرجوع إلى موافقة أغلبية أعضائه؛ وأدّى الجدال بين السلطتين التنفيذية والتشريعية في واشنطن إلى إلغاء ضربة ثانية كانت مقررة في الخامس من شهر آذار/مارس على المواقع نفسها.
الرئيس بايدن حاول من خلال تلك الضربات العسكرية إظهار قدرته على الحسم باستعمال قوة السلاح حين يلزم الأمر، وذلك رداً على اتهامات الجمهوريين له بأنه وصل يرتدي عباءة سلفه باراك أوباما السياسية الفضفاضة، وليرسم من جديد ما يشابه “خطوط أوباما الحمر” المشكوك بمصداقيتها ولاسيما في معالجته الضعيفة للأزمة السورية التي بلغت ذروتها باستعمال النظام السوري السلاح الكيميائي ضد المدنيين العزل في العام 2013.
أما البيان الذي أصدره البنتاغون إثر العملية الأميركية في شرق الفرات فأشار أن “الرد العسكري تم بالتناسب مع تدابير دبلوماسية بما فيها التشاور مع شركاء من دول التحالف”، وهنا بيت القصيد.
فالرئيس بايدن وجد نفسه مؤخراً في القلب من أزمة اشتعلت كالنار في الهشيم بين الطرف الاسرائيلي من جهة والفلسطيني ممثلاً بحركة حماس في غزة من جهة أخرى، وكانت الأمور تبدو في تفاقم مستمر لو لم تلجأ إدارة بايدن إلى للتدحّل والعمل السريع والكثيف، وعادت إلى شركائها العرب في المنطقة من أجل إخماد جذوة الأحداث الدامية الأخيرة التي أودت بحياة المئات من أهل غزة بينهم العشرات من الأطفال والنساء خلال أيام قليلة، بينما كانت خسائر اسرائيل البشرية محدودة مقارنة بالفلسطينية منها.
أما ما بدا للمراقب من أن إدارة بايدن هي في طور الانسحاب البطيء والمنظّم من الملفات الساخنة في الشرق الأوسط، فقد أصبح على حين غرّة أمراً من الماضي بعد أن غيّرت أحداث غزة مساره تماماً وأعادت الرئيس بايدن إلى عمق الحدث في الشرق الأوسط ودعته إلى إجراء العشرات من المحادثات الهاتفية مع الأطراف المعنية بالنزاع العربي الاسرائيلي للتشاور وإيجاد المخارج. المحادثات تركزت على الاتصال مع قادة مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ودولة قطر والسلطة الفلسطينية والمملكة الأردنية، هذا بالإضافة إلى اتصال يومي مع الطرف الاسراائيلي الطاغي عسكرياً في المعادلة؛ وانتهى الأمر بتكليف مصر بقيادة المفاوضات مع الأطراف المنخرطة في العمليات العسكرية المتبادلة بين غزة وتل أبيب بهدف الوصول إلى وقف إطلاق نار في أسرع وقت ممكن مخافة تعاظم الأزمة بشكل قد يجعل من الصعب احتواءها والسيطرة عليها.
أحداث غزة كانت كافية لتحمل واشنطن على إدراج قضايا الشرق الأسط وملفاته الساخنة على قائمة أولويات البيت الأبيض والأمن القومي الأميركي. وبزخم دبلوماسي عالٍ وجدنا الرئيس بايدن ووزير خارجيته وطاقم من المستشارين والخبراء ينخرطون بفاعلية في الملفات المسكوت عنها ولاسيما تلك التي تتعلق بإحلال سلام راسخ وشامل ومستدام في المنطقة يبدأ من اليمن وينتهي في فلسطين، وكما يجب أن يكون عليه السلام الحقيقي. كما أن تلك الأحداث جعلت الرئيس بايدن ووزير خارجيته بلينكن يعيدان النظر في مواقفهما وتصريحاتهما الهجومية وغير المبررة على قادة دول عربية حليفة،بينما وجدا في التشارك معهم بالرؤى والمشورة وتوزيع الأدوار في في قضايا الشرق الأوسط المعلّقة فائدة عميمة برزت قيمتها في توصّل قيادة مصر إلىتحقيق وقف إطلاق نار بين فصائل حماس والجيش الاسرائيلي خلال فترةزمنية قياسية تُشهد للقاهرة ودبلوماسيتها العريقة.
وفور دخول اتفاق وقف إطلاق النار مرحلة النفاذ لدى الطرفين المشتبكين، ألقىالرئيس بايدن كلمة حيّا فيها مصر ممثلة برئيسها، عبد الفتاح السيسي،وبدبلوماسيتها المتجدّدة، للوساطة المثمرة التي أدارتها بين الأطراف المعنية، والتي ساهمت في نزع فتيل حرب كان من الممكن أن تمتد في الزمان والمكان بصورة تشكّل خطراً كبيراً على الأمن الإقليمي والعالمي في آن. وأشار بايدن في كلمته إلى أن “الفلسطينيين والإسرائيليين جديرون على حدّ سواء أن يعيشوا بأمان وسلامة وأن يتمتّعوا بشكل متساوي بحالة من الحرية والازدهار والديمقراطية”.
من اللافت أن التعاطي الدبلوماسي العربي المدعوم أميركياً لفض الاشتباك الاسرائيلي الفلسطيني الأخير في إطار المساعي المشتركة العربية والأميركيةقد أسّس نموذجاً يُحتذى به في وضع الحلول الناجعة للعديد من الملفات العالقة في الشرق الأوسط. وأثبتت نجاح الوساطة التي قادتها القاهرة،ودعمتها واشنطن، ضرورة إحياء الشراكات الأميركية السياسية مع الدول العربية الحليفة، والعودة إلى مرجعية الدول الفاعلة والمؤثرة من أجل المضي قدماً في مشروع السلام الشامل والمستدام في هذه المنطقة الحيوية والأكثر سخونة في العالم.
فمبادرة السلام العربية التي طرحتها المملكة العربية السعودية في العام2002 والتي تستند إلى إقامة دولة فلسطينية معترف بها دولياً على حدود العام 1967 مقابل الاعتراف والتطبيع العربي مع دولة اسرائيل مازالت سارية الصلاحية، وهي تلتقي مع رؤية الرئيس بايدن – كما العديد من الرؤساء الأميركيين – في إقامة دولتين، فلسطينية واسرائيلية، يعيش أهلهما بسلاموحسن جوار جنباً إلى جنب.
فصل المقال رسمت خطوطه العريضة أحداث غزة التي نبّهت الإدارة الأميركيةالجديدة إلى أن التراجع عن دورها في الشرق الأوسط يحدث فراغاً سيسرع الخصمان روسيا والصين لإشغاله، كما وأن الاستغناء عن شراكاتها مع دول عربية هي حليف تاريخي لها سيعطي لإيران اكسجيناً مضافاً تحتاجهلتستكمل دورها في تقويض الاستقرار في المنطقة وإحكام السيطرة عليها. وأدركت إدارة بايدن أن عليها تجنّب هذين الأمرين معاً والمضي بطريق يناقضهما تماماً من أجل إحلال السلام العالدل والمستدام الذي تطمح له شعوب المنطقة ودولها.
كما لابد لنا نحن في العالم العربي من أن نعي ونحدّد موقفنا من المستجدات الإقليمية والدولية وكيقية استثمارها لتحقيق أهداف الشعوب العربية في التحرر السياسي والاجتماعي وضمان الاستقلال الاقتصادي. ومن بعض تجليات تلك المستجدات – على سبيل المثال لا الحصر – هو موافقة واشنطن على تزويد دولة الإمارت بطائرات F35 التي لم تسلّمها إلا لتل أبيب، كما أن المشاورات جارية مع الرياض من أجل إقامة قبة حديدية تحمي أجواء المملكة العربية السعودية من أي اعتداء موجّه إلى أراضيها، وتوازي تلك التي تحيط بسماءاسرائيل.
فهل التوازن العسكري الجديد بين الدول العربية واسرائيل يعني لنا شيئاً؟وكيف يمكننا أن نجيّره ونبني عليه لتحقيق طموحنا في الاستقرار ولاحقاً في التنمية وازدهار الدولة العربية المشهود لها في حقبتها الذهبية؟ هنا يكمنجوهر السؤال الملحّ والذي بات من الضرورة الإجابة عليه.