حين يكون السلاح على الطاولة الحوار وحده لا يكفي للتفاوض
د. سمير التقي - خاص وايتهاوس ان أرابيك
الاستماع للمقال صوتياً
|
في اللحظة الراهنة يطيب للرئيس بوتين أن يتأمل تدافع القادة الأوربيين على موسكو ل “مناشدته” التوقف عن تهديد أوكرانيا.
فهل سيهاجم بوتين أوكرانيا أم لا؟ لا أحد يعرف الجواب إلا بوتين نفسه. ولكن في انتظار ذلك، لا شك أن بوتين يستطيب أن يستقبل زعماء أوروبا، الواحد تلو الآخر، ليعرض عليه مقايضات وصفقات جديدة بين هذا البلد الأوربي أو ذاك وبين روسيا.
إذ لا شيء يثير غبطة بوتين من رؤية هذا التدافع الأوروبي في حين تحتشد علي حدود أوكرانيا قوات روسية يقارب قوامها 130 الفا محتشدة سواءً في روسيا او في دونباسك او بيلروسيا او في شبه جزيرة القرم الروسية المحتلة، وكذلك في البحر الأسود حيث يتم التحضير لعمليات برمائية لعزل أوكرانيا عن البحر الأسود. هذا الحشد يشكل ما يقارب ال 40٪ من القوات الروسية القابلة للنشر وفي حال تحركها فسيكون ذلك واحدا من أكبر العمليات القتالية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
فهل تشير الوقائع أن الدبلوماسية الناعمة وحدها هي اللغة التي يفهمها بوتين؟
وفقا لمعظم مقاييس القوة العسكرية، لا توجد مقارنة في القدرات العسكرية الروسية والأوكرانية. روسيا أقوى بكثير من أوكرانيا. لكن الجيش الأوكراني على ضعفه قد تحسن بشكل ملحوظ منذ عام 2014 منذ احتلال شبه جزيرة القرم. وتصلب عوده بالقتال ضد انفصالي دونباس الموالين لروسيا. لذلك يؤكد المسؤولون الأوكرانيون انه إذا كان فلاديمير بوتين يجلس في الكرملين معتقدا أنه سيمشي بسهولة في الحديقة في غزو كبير لأوكرانيا، فإنه مخطئ ولا شك. ذلك أن غزو أوكرانيا شيء، والاحتفاظ بها شيء آخر.
في انتظار ذلك ماذا يفعل بوتين؟ من الصعب التنبؤ بكيفية تطور الأحداث على الأرض بعد الاحتلال. لذلك من الممكن أن يتخذ الهجوم الروسي أشكالا مختلفة، ليس أكثرها احتمالا الغزو الصريح المفتوح. بل إن أقلها كلفة أن يقوم بفرض ضم المقاطعتين الأوكرانيتين اللتين يحتلهما أنصاره، او ان يتقدم ببطء على مراحل حيث يرجح الكثير من الباحثين ان يفضل بوتين القضم البطيء لأوكرانيا حيث يحتل بعض المناطق القريبة من القرم ودونباسك وربما صولا إلى النهر، بحيث يخفض حجم خسائره البشرية. وفي كل الأحوال فان ثمة قناعة أن بوتين سيكون سعيدا بتحقيق مكاسبه وهو جالس على طاولة المفاوضات مع بعض الزعماء الاوربيين. ومدفعه على الطاولة. وربما سيعود لوصفته التقليدية في إنجاز بعض الاغتيالات وغيرها من المؤامرات لاحتمال حدوث انقلاب في أوكرانيا.
بالمقابل، تقول القوات الأمريكية وقوات حلف شمال الأطلسي، أنها لن تقاتل داخل أوكرانيا. كما أن الأوكرانيين لا يطلبون ذلك. لكن أقصى ما كانوا يطلبونه هو أن يحصلوا على المعدات العسكرية للدفاع عن أنفسهم بأنفسهم وبشكل أفضل. لذلك فانهم يؤكدون أن لا أحد يطلب ان يذهب الجنود الأمريكيون للقتال من أجل أوكرانيا.
لقد شكلت استراتيجية بوتين المتدحرجة، دعاية قيمة لقيمة عضوية حلف شمال الأطلسي، لأنه فعل ما فعله بجورجيا في عام 2008 وفعل ما فعله في شبه جزيرة القرم في عام 2014 لكن بالمقابل وبطبيعة الحال، فإن تصرفات بوتن نفسه تخلق السبب الرئيسي وراء استعداد أوكرانيا لأن تكون عضوا. لكن ذلك يفترض ان تلاقيه الولايات المتحدة بتعزيز الردع الاستراتيجي لاحتمالات المغامرة الروسية.
لقد قالت إدارة بايدن، إنها لن ننشر قوات أمريكية لمحاربة روسيا، وأوكرانيا تتوسل للحصول على أسلحة. وللأسف كانت هذه الإدارة بطيئة جدا في الاستجابة لتلك الطلبات. إذ لم تصل لأوكرانيا سوى ست شحنات، والتي، رغم ان ضرورتها الماسة، فإنها أنها غير كافية على الإطلاق، وهي بالتأكيد متأخرة للغاية.
منذ وصل بوتين إلى السلطة، لم ينجح أي رئيس أمريكي حاول الحد من التوتر مع روسيا، أو التواصل دبلوماسيا معها، الا في زيادة تعنتها ما لم تكن الخطوة الدبلوماسية الأمريكية مترافقة بالضغط الرادع المباشر.
فلكي يتجاوز بوتين حقيقة الضعف الاستراتيجي الجوهري لروسيا يلجأ لتعزيز قوته النسبية عن طريق التركيز على إضعاف قوة الطرف الآخر، أي إضعاف التحالف الغربي، مستفيدا من الميل التقليدي للدبلوماسية الأمريكية للتهدئة والطمأنة.
هكذا فعل من اجل اضعاف تحالفات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وكذا تصرف في دعمه لتفتيت حلف الناتو والاتحاد الأوروبي، في حين يستمر في المزيد من قضم الدول والأراضي.
ويبدو بوضوح أن استمرار بوتين بالتصعيد يشير إلى أن مستوى الردع لم يبلغ الدرجة المطلوبة لكبح جماحه وينطبق ذلك على أوروبا كما على الشرق الأوسط كما في الفضاء السيبراني. وفي حين تثبت التجربة مع بوتين أن التفاوض من منطلق النوايا الطبية وحدها لم يكن مجديا يوما، منذ وصوله إلى السلطة، فإن الردع الاستراتيجي هو الذي يجعل التفاوض وزيارات موسكو تحمل أي مغزى جدي.