آخر التحديثاتأبرز العناوينمقال الرأي

السياسة الأميركية تجاه إيران: معضلة التدخل العسكري

الاستماع للمقال صوتياً

كاليفورنيا – مقال الرأي

د. عبيد الله برهاني

لم يعد الملف الإيراني مجرّد أحد أعقد تحديات السياسة الخارجية الأمريكية، بل تحوّل، مع الضربة العسكرية الأخيرة التي استهدفت مواقع نووية حساسة داخل إيران، إلى اختبار خطير لمعادلة الردع والاستقرار في الشرق الأوسط. فقد أقدمت واشنطن، في سابقة غير مسبوقة منذ عقود، على استهداف منشآت إيرانية، ما فجّر موجة اعتراض داخل الولايات المتحدة، شملت قيادات جمهورية بارزة ومسؤولين ديمقراطيين، يتقدمهم الرئيس الأسبق بيل كلينتون، الذين حذّروا من تداعيات هذه الخطوة على الأمن الإقليمي والمصالح الاستراتيجية الأمريكية.

وعلى الجانب الإيراني، جاء الرد سريعًا، إذ صادق البرلمان على قرار يقضي بإغلاق مضيق هرمز أمام الملاحة الدولية، في خطوة تعكس تصعيدًا استراتيجيًا قد تترتب عليه تداعيات جسيمة على استقرار أسواق الطاقة العالمية والأمن الإقليمي.

وفي سياق موازٍ، أعلن الجانب الإيراني نقل كميات من اليورانيوم من المواقع المستهدفة قبيل تنفيذ الضربة الجوية. غير أن هذا التصريح قوبل بتساؤلات واسعة من الأوساط الاستخباراتية والخبراء الأمنيين، نظرًا لما توفر من معطيات ميدانية وتقنية تشير إلى صعوبة تنفيذ مثل هذه العملية في ظل الظروف الأمنية المحيطة.

فوفقًا لمصادر استخباراتية مطّلعة، كانت منشأتا فوردو ونطنز تخضعان لرقابة دقيقة ومستمرة ضمن عملية سرّية أُطلق عليها “مردم-12″، تضمنت استنساخ أنظمة التحكم الصناعي (SCADA)، ما أتاح للأجهزة الاستخباراتية تتبّع حركة المواد النووية داخل المنشآت لحظيًا.

علاوة على ذلك، تؤكد التقديرات التقنية أن نقل مواد نووية من مواقع تحت الأرض على عمق يتجاوز 80 مترًا، وفي ظل إنذار أمني دائم، يواجه تحديات لوجستية وفنية بالغة التعقيد. كما أن طبيعة العملية الجوية، التي نُفّذت باستخدام قاذفات شبحية من طراز B-2، تشير إلى أن الضربة أعقبت إغلاقًا استخباراتيًا محكمًا للهدف، ولم تكن مجرّد تحرك استباقي، بل عملية مركّزة استهدفت تعطيل مواقع يُعتقد أنها تمثل حلقة محورية في البرنامج النووي الإيراني.

وفي ضوء ذلك، يبدو أن المشهد في إيران دخل مرحلة جديدة مفتوحة على احتمالات متعدّدة، سواء على المستوى الداخلي، من حيث انعكاسات هذه الأحداث على الوضع السياسي والأمني، أو فيما يتعلّق بمستقبل البرنامج النووي، الذي قد يلجأ إلى إعادة الانتشار أو العمل خارج المواقع التقليدية، في بيئة داخلية متوترة وإقليم يشهد تصعيدًا متسارعًا.

وقد فتحت هذه التطورات الباب أمام تساؤلات جديدة بشأن مستقبل السياسة الأمريكية تجاه إيران: هل ستتمكن واشنطن من ضبط الموقف ضمن نطاق محدود، أم أن الأمور ستتدحرج إلى مواجهة شاملة يصعب احتواؤها؟

تاريخيًا، اختلفت الحالة الإيرانية عن تجربتي العراق وأفغانستان، حيث اعتمدت الولايات المتحدة هناك على شبكات نفوذ محلية وفصائل مسلحة دعمت العمليات العسكرية، لكنها لم تكن ذات موثوقية تامة ولا تزال واشنطن بصدد تقييم إرثها. أما في إيران، فيغيب هذا العنصر؛ فالمعارضة الخارجية محدودة التأثير، والداخلية خاضعة لقبضة أمنية شديدة. هذا الغياب لحلفاء ميدانيين يجعل أي تدخل أمريكي مغامرة باهظة الثمن سياسيًا وعسكريًا.

غير أن حسابات واشنطن أكثر تعقيدًا مما يتصوره رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي لطالما مارس ضغوطًا لدفع الولايات المتحدة نحو المواجهة، معتبرًا أن استمرار الوضع الحالي دون حسم عسكري يعمّق المخاطر على أمن إسرائيل. في المقابل، ترى مراكز صنع القرار الأمريكية أن إيران تمتلك مؤسسات متماسكة، وقوات مسلّحة فعالة، فضلًا عن شبكة إقليمية حليفة قادرة على تهديد واسع النطاق للمصالح الأمريكية في المنطقة.

المعضلة الكبرى أن البيئة الداخلية الأمريكية لم تعد مهيأة بسهولة لتبنّي قرار حرب شاملة، في ظل التحولات العميقة بعد تجربتي العراق وأفغانستان، وارتفاع كلفة الحروب على المجتمع والدولة. كما أن الانقسام داخل الإدارة والكونغرس بين تيار يدفع نحو الحسم العسكري بدعوى وقف المشروع النووي الإيراني، وآخر يرفض أي تدخل مباشر، يُعقّد المشهد ويمنح المبادرة لعوامل خارجية.

ما يزيد من خطورة الوضع أن إسرائيل تسعى من خلال هذه الضربة إلى إبقاء واشنطن في حالة استنزاف سياسي واستراتيجي مستمر، إلى أن تفرض تطورات مفاجئة قرارًا أمريكيًا بالرد العسكري قد يتدحرج لاحقًا إلى حرب شاملة. وتقوم هذه الاستراتيجية على دفع الولايات المتحدة لبدء معركة تبدو محدودة، سرعان ما تتّسع بفعل طبيعة البيئة الإقليمية المتشابكة وتعقيد التحالفات التي تتجاوز التصورات الموضوعة مسبقًا.

حتى الآن، تحاول واشنطن الموازنة بين سياسة الردع المباشر المحدود عبر عمليات استخباراتية وضربات دقيقة، والاعتماد على حلفائها الإقليميين، دون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة طويلة. غير أن قرار البرلمان الإيراني بإغلاق مضيق هرمز شكّل متغيّرًا بالغ الخطورة، إذ ينذر بشل حركة الطاقة العالمية ورفع أسعار النفط، الأمر الذي قد يدفع الولايات المتحدة إلى مراجعة استراتيجيتها والتفكير في خيارات لم تكن مطروحة سابقًا.

في المحصلة، يبدو أن قرار الحرب على إيران بات أقرب من أي وقت مضى، غير أنه لا يزال مرهونًا بمدى تصاعد ردود الفعل الإيرانية، وتوازنات الداخل الأمريكي، وضغوط الحلفاء، خصوصًا في ظل انتخابات أمريكية وشيكة قد يسعى بعض الأطراف لاستثمار هذا التصعيد سياسيًا.

إن أي تحرّك عسكري شامل لن يكون نتاج قناعة استراتيجية أمريكية بجدواه، بل نتيجة اضطرار فرضته بيئة إقليمية ملتهبة وسياق داخلي معقّد. ويبقى السؤال الأهم: هل تستطيع الولايات المتحدة مواصلة التحكم بخيوط الأزمة، أم أن تداعيات الميدان وضغوط الشركاء ستدفعها إلى مواجهة لا ترغب بها، لكنها قد تجد نفسها عاجزة عن تفاديها

د. عبيد الله البرهاني

أكاديمي وكاتب سياسي أميركي من أصل أفغاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى