
تطبيع العلاقات الباكستانية الأميركية: رهانات أمنية وتوازنات إقليمية
الاستماع للمقال صوتياً
|
كاليفورنيا – مقال الرأي
الدكتور عبيد الله برهاني
تشهد العلاقات الباكستانية-الأمريكية مرحلةً من إعادة التموضع، مدفوعةً بأزمات داخلية خانقة في باكستان، وتحولات إقليمية ودولية متسارعة. وتأتي زيارة رئيس أركان الجيش الباكستاني، الفريق أول عاصم منير، إلى واشنطن في توقيتٍ حاسمٍ يعكس سعي الطرفين لإعادة ترتيب أوراق العلاقة وفق اعتبارات أمنية واستراتيجية جديدة. يتزامن ذلك مع استمرار الشراكة الاستراتيجية الباكستانية-الصينية، في ظل استراتيجية أمريكية واضحة لاحتواء النفوذ الصيني في جنوب آسيا وآسيا الوسطى.
تاريخيًا، اتسمت العلاقة بين واشنطن وإسلام آباد بالتقلبات؛ فقد شكلت باكستان حليفًا رئيسيًا للولايات المتحدة إبان الحرب الباردة، وفي سياق الحرب ضد السوفييت في أفغانستان (1979-1989)، ثم لاحقًا ضمن “الحرب على الإرهاب” بعد أحداث 11 سبتمبر 2001. غير أن العلاقة شهدت فترات توتر حاد، لا سيما عقب الكشف عن وجود أسامة بن لادن في باكستان عام 2011، وتصاعد التقارب الباكستاني-الصيني، بالإضافة إلى مواقف إسلام آباد من الصراع في أفغانستان. هذا التاريخ المتعرج يؤطر المشهد الحالي، ويضع قيودًا على إمكانية استعادة مستويات الثقة والتعاون التي كانت قائمة في فترات سابقة..
تعاني باكستان حاليًا من أزمة اقتصادية خانقة، تتجلى في تصاعد الديون الخارجية، وتراجع الاحتياطي النقدي، وارتفاع معدلات التضخم، إلى جانب حالة من الاضطراب السياسي الحاد وتدهور الوضع الأمني مع تنامي نشاط الجماعات المسلحة، خاصةً على الحدود مع أفغانستان. هذه الظروف دفعت المؤسسة العسكرية — وهي الفاعل الأبرز في رسم السياسات الخارجية إلى إعادة تقييم خياراتها وتنشيط خطوط الاتصال مع واشنطن. فالضغوط الداخلية، المتمثلة في الحاجة الماسة للدعم الاقتصادي والأمني، تدفع القيادة الباكستانية نحو استكشاف كل القنوات الممكنة لتخفيف الأعباء عن كاهل الدولة.
تأتي زيارة الفريق عاصم منير إلى واشنطن في توقيت بالغ الحساسية، حاملة رسائل أمنية واقتصادية وسياسية متشابكة. تهدف الزيارة إلى إعادة تفعيل قنوات التنسيق الأمني، خاصة فيما يتصل بالملف الأفغاني، وربما الإيراني، ومواجهة الجماعات المتشددة العابرة للحدود، وعلى رأسها “داعش-خراسان”. كما تبحث إمكانية الدعم الاقتصادي غير المباشر عبر المؤسسات المالية الدولية ذات النفوذ الأمريكي، في ظل الأزمة الحادة التي تعانيها باكستان. في المقابل، تسعى واشنطن لاستكشاف دور إقليمي وظيفي لباكستان ضمن استراتيجيتها الأوسع لموازنة النفوذ الصيني المتصاعد في آسيا الوسطى وبحر الصين الجنوبي.
في سياق مواجهة النفوذ الصيني، تعيد واشنطن هيكلة تحالفاتها الإقليمية، مع تركيز خاص على الدول التي تمتلك جيوشًا قوية وأجهزة استخبارات نشطة، وتجارب ميدانية سابقة في بيئات أمنية معقدة. ويبرز الدور الباكستاني هنا باعتباره شريكًا أمنيًا ذا خبرة في أفغانستان، ومنطقة القبائل، ومكافحة التنظيمات العابرة للحدود. ومن المتوقع أن تستثمر واشنطن هذا الدور ضمن شبكة تحالفات مرنة، تشمل الهند، وأوزبكستان، ودول الخليج، لموازنة النفوذ الصيني إقليميًا. هذا التوجه يعكس استراتيجية أمريكية أوسع لتعزيز الأمن الإقليمي وتقليل الاعتماد على قوة عسكرية أحادية في منطقة تتسم بالتعقيد. إن سعي واشنطن لإعادة تموضع علاقتها مع إسلام آباد لا ينفصل عن رؤيتها الاستراتيجية الأوسع في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، حيث تسعى لتعزيز شبكة من الشركاء القادرين على موازنة النفوذ المتزايد للقوى الكبرى الأخرى، مع التركيز على تعزيز الاستقرار الأمني والاقتصادي الذي يخدم مصالحها الإقليمية والعالمية. لا يقتصر هذا المسعى على الجانب الأمني فحسب، بل يمتد ليشمل تعزيز الاستثمارات الأمريكية والخاصة في باكستان كبديل أو مكمل للاستثمارات الصينية، مع التركيز على الممارسات الاقتصادية العادلة والشفافية. كما تولي واشنطن اهتمامًا، وإن كان متفاوتًا، لقضايا حقوق الإنسان والحوكمة الديمقراطية، مدركةً أن استقرار باكستان على المدى الطويل مرتبط بوجود مؤسسات قوية وحكم رشيد.
تبقى معضلة باكستان قائمة في التوفيق بين شراكتها الاستراتيجية مع الصين، خاصةً في مشروع “الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني (CPEC)”، وبين إبداء مرونة تجاه الضغوط الأمريكية. حيث تحتاج إسلام آباد للموازنة بين شريان اقتصادي صيني حيوي من جهة، وإمكانية الحصول على دعم اقتصادي وأمني أمريكي من جهة أخرى.، لاشك استعداد اسلام اباد مسبقا للتعاون الأمني ضمن المصالح المتبادلة. إن هذا التوازن الدقيق يعكس الطبيعة المعقدة للعلاقات الدولية في عالم متعدد التوجهات.
إن رهان واشنطن في هذا المسار يتمثل في استثمار باكستان كوسيط أمني إقليمي، دون الالتزام بتحالف استراتيجي دائم، مع السعي لتحييدها قدر الإمكان عن النفوذ الصيني المتصاعد في المنطقة. فالولايات المتحدة تسعى لتحقيق أهدافها الأمنية والجيواستراتيجية، خاصة فيما يتعلق بأفغانستان، والحد من التمدد الصيني نحو غرب آسيا، دون أن تتحمل أعباء التحالفات التقليدية التي أرهقتها في العقدين الماضيين.
في المقابل، تراهن باكستان على توظيف علاقتها المتجددة مع واشنطن كورقة توازن أمام بكين، في ظل شراكتها الاستراتيجية مع الصين عبر مشروع “الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني” (CPEC)، والذي يعد بمثابة الضمانة الاقتصادية طويلة الأمد لإسلام آباد. تسعى باكستان إلى تعظيم مكاسبها من القوتين العظميين — الولايات المتحدة والصين — دون التضحية بأي منهما، مع محاولة تعزيز دورها الإقليمي على حساب جيرانها، مستفيدة من موقعها الجيوسياسي كممر إجباري للمصالح الدولية، وكمحور أمني فاعل في الملفات الأفغانية والإيرانية والهندية.
من المرجح أن تتجه العلاقات الباكستانية-الأمريكية نحو صيغة شراكة أمنية براغماتية مؤقتة، تقوم على تنسيق الملفات ذات الاهتمام المشترك، دون استعادة صيغ التحالف القديمة. وستظل باكستان تناور ضمن هامش سياسي ضيق، مستفيدة من حاجة الطرفين لبعضهما في ظل المشهد الإقليمي المعقد، مع استمرار أزماتها الداخلية التي تملي عليها التحرك بحذر بين ضغوط القوى الكبرى. هل ستنجح باكستان في الحفاظ على التوازن الدقيق بين حلفائها المتنافسين، أم أن الضغوط ستدفعها نحو اختيار أكثر وضوحًا في المستقبل؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.