آخر التحديثاتأبرز العناوينمقال الرأي

ما بعد زيارة ترامب إلى الخليج.. قراءة في التبعات والتبدلات المحتملة

الاستماع للمقال صوتياً

سوريا – مقال اللاأي

د.مالك الحافظ

شكّلت زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الخليج العربي حدثاً سياسياً يتجاوز أبعاده الظاهرة، خاصة وأنها جاءت في توقيت بالغ الحساسية من حيث السياقات الإقليمية والدولية.

لقد حملت الزيارة في مضمونها تحولاً في تموضع الولايات المتحدة حيال الخليج، انعكس في اللغة، والرمزية، والأولويات التي طُرحت.

ما بعد هذه الزيارة ليس امتداداً لما قبلها، بل نقطة انتقال في العلاقات الخليجية–الأميركية.

أبرز نتائج الزيارة تتمثل في إعادة ترتيب شكل التحالفات الإقليمية التي اعتادت واشنطن إدارتها بطريقة هرمية، ترتكز على مركز قوة واحد في كل منطقة. ما بدا واضحاً من الجولة، أن الولايات المتحدة لم تعد متمسكة بنموذج “الحليف القائد”، بل تتجه نحو توزيع النفوذ ضمن صيغة تنسيقية مفتوحة تسمح بتعدد مراكز الثقل الخليجي.

السعودية حافظت على موقعها كشريك أول، لكنها لم تُمنح تفويضاً كاملاً. زيارة ترامب إلى الدوحة وأبو ظبي، بكل ما حملته من أجندات منفصلة، تعني أن الولايات المتحدة تتبنّى حالياً استراتيجية التوازن بين العواصم الخليجية، لا الاصطفاف معها، وهذا يشير إلى إدراك أميركي عميق لحساسية المرحلة، والحاجة لضبط التنافس الخليجي–الخليجي بدل الانحياز فيه.

هذه التحولات تعني أن واشنطن تتراجع عن مفهوم “محور الاعتدال” كمحور قيادي سياسي، لتتبنّى صيغة شبكية للتحالفات، يتم فيها توزيع المهام الأمنية والاقتصادية حسب القدرة، لا حسب الخطاب.

كذلك فإن الزيارة تفتح فصلاً جديداً في توظيف المال الخليجي كأداة استراتيجية أميركية، وليس فقط كشريك استثماري. الاتفاقيات التي أُبرمت خلال الجولة لم تكن محصورة في المجال العسكري، بل شملت قطاعات التكنولوجيا الحيوية، الطاقة المتجددة، الصناعات الطبية، والبنية التحتية.

هذه التوسعة تشير إلى رغبة واشنطن في تنويع أوجه الاعتماد الاقتصادي المتبادل، وتثبيت الخليج كشريك في “اقتصاد المستقبل”، ليس فقط كمصدر نفطي أو ممول للصفقات العسكرية. لكن في المقابل، فإن هذه الصيغة تضع الدول الخليجية أمام اختبار مزدوج؛ أولهما الالتزام بالتحول الاقتصادي النوعي داخلياً، والثاني يتعلق بربط استثماراتها ببيئة اقتصادية أميركية متقلبة سياسياً.

من جهة أخرى، تتعمق الرهانات الأميركية على الخليج كمنصة مالية تواكب صعود التحديات العالمية مثل الذكاء الاصطناعي وسلاسل الإمداد، ما يجعل التموضع الاقتصادي نفسه أداة للنفوذ السياسي، تُستخدم لترتيب الأولويات في مناطق أخرى مثل البحر الأحمر، القرن الإفريقي، وحتى شرق المتوسط.

حملت زيارة ترامب ملامح تحول تدريجي في وظيفة الأمن الخليجي، إذ لم تعد الحماية العسكرية الأميركية تُطرح بصيغة الالتزام الكامل أو القواعد الدائمة، بل بصيغة “الردع المتغير”، القائم على التنسيق الاستخباري، والتفوق التقني، والمرونة الانتشارية.

هذه المقاربة تُخفّف من عبء الوجود العسكري المباشر على الولايات المتحدة، لكنها تُلقي على العواصم الخليجية مسؤوليات أكبر في تمويل، تنظيم، وتفعيل أدوات الردع الإقليمي، وهو ما قد يؤدي إلى تحول تدريجي في شكل الجيوش الخليجية نفسها، باتجاه مزيد من الدمج بين القطاع الأمني والقطاع التكنولوجي، وخلق بنى دفاعية هجينة تعتمد على الخصخصة الأمنية والتعاون مع شركات دفاعية أميركية خاصة.

إضافة إلى ذلك، فإن توسيع حضور إسرائيل الأمني ضمن المعادلة الإقليمية الجديدة وهو ما أُلمح إليه بشكل غير مباشر، يعيد تعريف مفهوم “الأمن الجماعي” في الخليج ويطرح أسئلة عميقة حول مدى قبول هذا الانفتاح في البيئات السياسية والمجتمعية المختلفة داخل المنطقة.

زيارة ترامب إلى الخليج لم تعُدّل في التحالفات فحسب، بقدر ما عدّلت في طبيعة العلاقة نفسها بين الطرفين. فبدلاً من علاقة رأسية قائمة على الحماية مقابل الولاء، نقترب اليوم من نموذج شراكة متشابكة، تتضمن تبادلاً وظيفياً في الملفات الأمنية والاقتصادية، ضمن عالم لم يعد يحتمل تحالفات مغلقة أو انحيازات صلبة.

لكن هذا التحول، رغم مرونته الظاهرية، يُلزم الطرف الخليجي بإعادة تقييم أدواته الذاتية، والاستعداد لتحمل مسؤوليات متزايدة في إدارة ملفاته، وسط انكفاء تدريجي في الالتزامات الأميركية المباشرة، وتوسع أدوات الضغط غير التقليدية.

بهذا المعنى، فإن زيارة ترامب لا تُقرأ فقط بما قيل فيها، إنما بما أُعيد تعريفه من خلالها، فالخليج لم يعد هامشاً استراتيجياً للولايات المتحدة، إنما بات عقدة وظيفية في نظام عالمي متغيّر، تتبدّل فيه الأدوار بسرعة تفوق قدرة الخطابات على اللحاق بها.

د. مالك الحافظ

كاتب صحفي وباحث أكاديمي سوري، حاصل على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية، ودرجة الماجستير في الإعلام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى