
المفاوضات النووية بين إيران والولايات المتحدة.. جولة رابعة من التحديات والفرص المفقودة
الاستماع للمقال صوتياً
|
مقال الرأي
د.مالك الحافظ
في وقت تتزايد فيه المخاوف الإقليمية والدولية حول مستقبل الأمن العالمي، تبقى المفاوضات بين الولايات المتحدة وإيران حول البرنامج النووي الإيراني واحدة من أكثر القضايا المعقدة والحاسمة التي تواجه السياسة الدولية في الوقت الراهن. جولة المفاوضات الرابعة التي ستُعقد في 3 مايو 2025، تمثل منعطفاً دقيقاً في مسار طويل ومعقد من المفاوضات التي بدأت مع الاتفاق النووي الإيراني في 2015، وتعرقلت منذ انسحاب الولايات المتحدة الأحادي من الاتفاق في 2018. وعلى الرغم من التقارير التي تُشير إلى تقدم تدريجي، يبقى المسار مليئاً بالعقبات التي قد تقلب الموازين في أي لحظة.
المفاوضات الإيرانية-الأمريكية تتجاوز في تعقيداتها الملف النووي إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير. فبينما تسعى طهران إلى رفع العقوبات الاقتصادية التي خانت شعبها وأثقلت كاهل اقتصادها، تظل الولايات المتحدة متمسكة بأهداف إستراتيجية أساسية، والمتمثلة بضمان عدم تحول إيران إلى قوة نووية قادرة على تهديد الأمن الإقليمي والعالمي. هذه المفاوضات، في جوهرها، ليست مجرد خلاف تقني حول نسب التخصيب أو ضمانات التفتيش، بل هي صراع وجودي حول كيفية إعادة ترتيب التوازنات الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط.
لا تقتصر هذه المفاوضات على الحسابات الثنائية بين إيران والولايات المتحدة، بل تتداخل مع حسابات أوسع تشمل القوى الإقليمية الكبرى مثل إسرائيل، التي تتخذ من الملف النووي الإيراني تهديداً وجودياً. ففي هذا السياق، تُشدد إسرائيل على ضرورة تفكيك البنية التحتية النووية الإيرانية بالكامل، مؤكدين أنه لا يمكن الاكتفاء بضمانات “تقليدية” قد تُبقي إيران في وضع يسمح لها بمواصلة تطوير قدراتها النووية.
من الناحية التقنية، تتركز النقاشات حول مستويات التخصيب الإيراني والرقابة الدولية على المنشآت النووية. ورغم أن طهران تدعي دائماً أن برنامجها النووي هو لأغراض سلمية، فإن مواقفها التصعيدية بشأن التخصيب، وعدم استعدادها لفتح منشآتها أمام رقابة شاملة، تثير الشكوك في نواياها الحقيقية. في هذا السياق، كانت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قد أبدت قلقاً متزايداً حول مستويات تخصيب اليورانيوم في إيران، التي اقتربت بشكل خطير من تلك المطلوبة لصناعة سلاح نووي. هذا السيناريو يضع المجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي فيما يتعلق بمصداقية الضمانات التي تقدمها طهران.
تزداد المخاوف مع تزايد التقارير حول تصعيد الحروب السيبرانية، التي تشارك فيها إسرائيل بشكل غير معلن، ضد إيران. فقد أعلن الإيرانيون مؤخراً عن تصديهم لهجوم سيبراني معقد استهدف بنيتهم التحتية الحساسة، ما يثير التساؤلات حول الدور الذي قد تلعبه العمليات الإلكترونية في تشكيل مسار هذه المفاوضات. هذه الديناميكيات الجديدة تزيد من تعقيد المفاوضات، حيث تتداخل المواجهات غير التقليدية مع الجهود الدبلوماسية التقليدية، مما يخلق بيئة محفوفة بالمخاطر.
إن أي تقدم في المفاوضات سيحمل تبعات سياسية كبيرة بالنسبة لإدارة ترامب، التي تواجه تحديات في الحفاظ على توازن مع الضغوط من مختلف الأطراف داخل النظام السياسي الأمريكي. ففي حين أن الرئيس ترامب قد أشار إلى إمكانية التوصل إلى اتفاق في النهاية، إلا أن تصريحاته الأخيرة حول إمكانية العودة إلى الخيارات العسكرية تعكس حالة من التردد وعدم الاستقرار السياسي.
يبدو أن إدارة ترامب محاصرة بين رغبتها في تحقيق “اتفاق تاريخي” يعزز من قوتها الدبلوماسية، وفي ذات الوقت تحاول تجنب المواجهة العسكرية التي قد تترتب على فشل المفاوضات. هذا التناقض بين الطموحات الدبلوماسية والواقع العسكري قد يعرقل إمكانية التوصل إلى اتفاق شامل، ويجعل موقف أمريكا في هذه المفاوضات شديد التعقيد.
من جانب آخر، تُواصل إسرائيل ممارسة ضغوط هائلة على الولايات المتحدة، لا سيما عبر مواقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو. فإسرائيل، التي ترى في إيران تهديداً وجودياً، تتمسك بموقف حاسم يتمثل في ضرورة تفكيك كامل للبنية التحتية النووية الإيرانية، مع ضمانات غير قابلة للتغيير حول عدم تطوير صواريخ باليستية قادرة على حمل رؤوس نووية. إسرائيل، التي تعتبر نفسها الحارس الأمين للأمن في المنطقة، تسعى لضمان أن أي اتفاق مع إيران سيكون ذا تأثير دائم ويضمن استقرار المنطقة على المدى الطويل.
في هذا الإطار، يبدو أن إسرائيل لا ترى في الاتفاقات الجزئية سوى مدخل إلى مزيد من التصعيد، وهو ما يهدد الأمن الإقليمي. ولذا، تدعو إسرائيل إلى مسار تفاوضي صارم يفضي إلى تقليص القدرة النووية الإيرانية بشكل جذري، وهو موقف قد يشكل تحدياً كبيراً أمام واشنطن إذا أرادت التوصل إلى اتفاق يضمن توافق الأطراف المعنية.
في الختام، تُعد هذه الجولة من المفاوضات نقطة محورية في تطور العلاقات الأمريكية-الإيرانية. ومع التحديات التقنية والإقليمية التي تحيط بها، يظل المستقبل غامضاً، على الرغم من إشارات التفاؤل الحذر التي أطلقها الطرفان، يبقى المفاوضون أمام اختبار حقيقي لقدرتهم على تجاوز الهوة الواسعة التي تفصلهم. إن الفشل في التوصل إلى اتفاق شامل قد يؤدي إلى تصعيد عسكري قد يعصف بالمنطقة بأسرها، بينما قد يشكل التوصل إلى اتفاق خطوة نحو إعادة هيكلة العلاقات بين إيران والغرب بطريقة أكثر استقراراً.
وبينما تنتظر الأطراف المعنية نتائج هذه الجولة المصيرية، يبقى الأمل في أن تؤدي المفاوضات إلى اختراق حقيقي يفضي إلى تهدئة حقيقية في المنطقة. لكن لا تزال الغيوم الإقليمية الملبدة، ولا سيما من جهة إسرائيل، وضرورة ضمانات ملموسة على الأرض، تشكل تحدياً كبيراً أمام نجاح هذه الجولة من المفاوضات.