آخر التحديثات

طائفية تلهث في عصر العولمة

الاستماع للمقال صوتياً

بوّابة سوريا – مقال الرأي

بقلم  المهندس إياد الزعبي

يرى الدكتور برهان غليون أن الطائفية تنتمي إلى ميدان السياسة وليس إلى مجال الدين والعقيدة، وأنها تشكّل سوقاً موازية أي سوقاً سوداء للسياسة، بمعنى آخر فإن وجود طوائف ومذاهب متعددة لا يستدعي بالضرورة نشوب صراعات طائفية ما دامت مؤسسات الدولة قوية، وفشل الدولة في احتواء الاختلافات أو توزيع الموارد بعدالة يفتح المجال لتوظيف الهويات الطائفية التكوينية في السياسة، وتفجير التوترات في المجتمع السوري المتنوع والمختلط، ولا بد من الإقرار بأن الفقر والتدهور الاقتصادي يشكلان عوامل حاسمة في صعود النزعات الطائفية، فبعد أكثر من عقد من الحرب، بات حوالي ٦٩% من السوريين تحت خط الفقر . هذا التدهور في مستوى المعيشة يفاقم التنافس بين الجماعات المختلفة على الموارد المحدودة، ويجعل المواطنين أكثر انخداعاً بخطابات الهويات التكوينية البسيطة، ففي سوريا حالياً تفسح حالات الفوضى الأمنية والبطالة المتفشية المجال لاستغلال خطابات طائفية مريضة بين المكونات، وهنا  تظهر ضرورة العدالة الانتقالية والمصالحات ذات الأساس المقبول لمعالجة جذور الاستياء وتفادي الانتقام الطائفي، ففي المراحل الانتقالية يبرز السؤال عن كيفية محاسبة رموز النظام السابق وترسيخ الثقة بين الطوائف، لأن غياب العدالة قد يدفع بعض الأطراف إلى الانخراط في أعمال انتقامية .

وقد ثبت عبر التاريخ أن غياب سلطة مركزية قوية يرفع من احتمال اندلاع صراع طائفي. فمثلاً في العراق بعد سقوط صدام حسين (٢٠٠٣) حدث استقطاب للسلطة بين الشيعة والسنة فأدى ذلك إلى انفجار مواجهات أهلية حادة في منتصف العقد الأول من الألفية وتشير دراسة لمعهد واشنطن إلى أن خطر قيام حرب طائفية يتهدد سورية في حال غياب حكومة كفؤة.

وفي مثال الحالة اللبنانية، أدت الاختلالات الطائفية وانهيار المؤسسات الوطنية إلى حرب أهلية (١٩٧٥–١٩٩٠)  ولم يتم حل النزاع إلا باتفاق الطائف عام ١٩٨٩ ولكن ظل الصراع كامناً في قنوات ومؤسسات الدولة وفي حين أن نظام المحاصصة اللبناني (رئيس مسيحي، ورئيس وزراء سني، ورئيس مجلس نواب شيعي) لم يحظَ بالاستقرار التام، بحيث شهد لبنان احتجاجات شعبية واسعة عام ٢٠١٩ ضد فساد النخب الطائفية.

ومثال آخر في نيجيريا، والتي تعاني منذ التسعينيات تجاذبات عنيفة بين الشمال المسلم والجنوب المسيحي، فكان لإزاحة الحكم العسكري في ١٩٩٩ دوراً واضحاً في انطلاق موجة من العنف الديني حيث تنافست الجماعات والطوائف على السلطة.

في كل تلك الأمثلة يتضح أن التوترات الطائفية يمكن أن تتحول إلى شلال دموي عندما تضعف مؤسسات الدولة ويغيب ضبط القانون.

إن الدول المذكورة تقدم دروساً عملية لمنع التصعيد الطائفي ففي العراق، رغم دستور ٢٠٠٥ الذي قسم السلطات بين السنة والشيعة والأكراد، لم تستطع المحاصصة الطائفية كسر حالة عدم الاستقرار، فإن الفساد وفشل الحكومة في توفير الخدمات تسبب باندلاع احتجاجات شعبية(بغداد ٢٠١٩) ضاغطةً لإصلاح النظام . وفي لبنان، رغم أن صيغة اتفاق الطائف أنهت الحرب الأهلية، إلا أن النظام الطائفي أحكم سيطرة نخب مترهلة ساهمت في حدوث الأزمة اقتصادية (٢٠١٩-٢٠٢٠) وفي انفجار احتجاجات تطالب بالمحاسبة.

أما في نيجيريا، فبتنا نعلم أن النزاع الطائفي غالباً ما يغلف صراعات حول الموارد والهوية، ولذلك يعد دمج الجماعات المختلفة في مؤسسات الدولة وفرض سياسات عدالة تنموية أمراً مهماً لتجنب الاستقطاب الديني على حساب الحقوق المدنية.

بشكل عام، فإنه لا يمكن اختزال الصراع في العامل الديني فقط بل يجب معالجة المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والأمنية بعمق لتفكيك الدوافع الطائفية.

واستناداً إلى التجارب السابقة واستشرافاً للمخاطر المحتملة في سوريا، يمكنني اقتراح سياسات وقائية للحد من التصعيد الطائفي، أهمها:

  • شراكة سياسية شاملة تضمن تمثيل عادل لجميع المكونات في الحكومة والبرلمان. وقد لوحظ أن الدول التي طبقت المحاصصة الطائفية (لبنان والعراق) نجحت بإنهاء فترات من الصراع، لكن النجاح على المدى الطويل يتطلب شفافية ومحاسبة. ومن ثم ينبغي ألا تكون المشاركة السياسيّة مجرد تسوية شكلية، بل مبادرة تتضمّن قواعد واضحة للانتقال إلى مفهوم الدولة، وكذلك لمراقبة نزاهة أي عمليات سياسية لاحقاً.
  • البدء بتطبيق العدالة الانتقالية وفتح ملفات الجرائم الجسيمة التي ارتُكبت خلال الحرب، وتجريم خطاب التحريض والتأكيد على محاسبة مرتكبي أعمال التعذيب والقتل الطائفي، فإن العدالة الانتقالية تشكّل إطاراً لمواجهة إرث الانتهاكات وبناء الثقة بين السوريين. فإقامة مؤسسات العدالة الانتقالية أو لجان تحقيق وطنية لفضح الانتهاكات (وفق آليات واضحة لرد الحقوق) ضروري لضمان شعور الضحايا بالإنصاف ومنع انتقام مضاد . ومهما تعهدت أي حكومة بالعدالة والمصالحة، فإن إخفاقها في محاسبة كبار الفاسدين والمجرمين يؤدي إلى تفاقم الحالة بدلاً من حلها  .
  • إصلاح القطاع الأمني والعسكري من خلال تفكيك الميليشيات الطائفية ودمجها ضمن جيش وطني موحّد، وينبغي أن تتبع ذلك عملية تدريجية لإعادة هيكلة الجيش والأجهزة الأمنية على أسس مهنية بدل الولاء الطائفي. فالاستمرار في وجود ميليشيات غير خاضعة لقيادة موحدة يخلّ بسلطة القانون ويتيح تصعيد العنف الطائفي بحجة حماية المجتمع.
  • الدعم الاقتصادي والاجتماعي والعمل على تخفيف حدة الأزمات المعيشية التي تغذي الاستقطاب. ولذا ينبغي تخفيف العقوبات الدولية وتيسير وصول المساعدات لإعادة الإعمار ودعم الفئات الفقيرة  . فالبنك الدولي يوثّق أن ٦٩% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر ، وغياب فرص العمل والمواد الأساسية يُثير اليأس ويزيد من قابلية الناس للتجنّد في مليشيات طائفية مقابل الكسب المادي، كما يُنصح بإطلاق برامج دعم مباشر للأُسر المحرومة، وتنمية المناطق المهمشة، لإعطاء المواطنين حوافز للتعايش بدل الانقسام.
  • تعزيز المجتمع المدني والحوار الوطني من خلال إشراك منظمات المجتمع المدني ومؤسسات فاعلة محلياً في المصالحة، ودعم المبادرات المدنية (منتديات حوار وإعلام محلي وتربوي) يساعد على بناء فهم مشترك، وتأكيد قيم المواطنة الجامعة  المستندة على خطاب الهوية السورية، ويستحسن إشراك مؤسسات دولية (أممية أو منظمة دولية) في مراقبة أي عمليات انتخابية وتقديم الاستشارات الفنية لضمان شفافية العملية السياسية.
  • مكافحة التحريض الطائفي ومحاربة الفساد حيث ينبغي سنّ قوانين رادعة ضد إشاعة الكراهية الطائفية وإثارة النزاعات الدينية. وتطبيق عقوبات صارمة على قادة الرأي والشخصيات السياسية التي تدعو للعنف الطائفي. كذلك يجب مكافحة الفساد داخل أجهزة الدولة، فالشفافية ومكافحة المحسوبية تبني ثقة المجتمع في الدولة بدلاً من الانسحاب إلى الطائفية العشوائية.

وفي النهاية يجب أن يدرك الجميع أن العيش الكريم لا يمكن أن يكون لطائفة دون سواها  أو لمجموعة عرقية دون غيرها في دولة حديثة وفي عصر العولمة الذي نعيشه.

إياد الزعبي

محلل بيانات ومصمم في شركة برمجيات ألمانية،

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى