
واشنطن ودبلوماسية الطاقة
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن وإدارة التوازنات الدقيقة.. الطاقة كأداة دبلوماسية ومسار الحرب في أوكرانيا
مالك الحافظ
مقال الرأي
في سياق التغيرات البنيوية التي يشهدها النظام الدولي منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، تتعامل واشنطن مع لحظة استراتيجية فارقة تتطلب إعادة تعريف الأدوات التقليدية للنفوذ وتكييفها مع واقع جيوسياسي معقد، يتسم بتداخل ملفات الطاقة، الأمن، والتحالفات الدولية. وبين محاولات تهدئة أسواق الطاقة عالمياً، والجهود المستمرة لبلورة مسار تفاوضي مقبول بشأن أوكرانيا، تظهر السياسة الأميركية كممارسة دقيقة لإدارة التوازنات، لا كحالة من التراجع أو الفشل.
منذ بداية الحرب، أعادت الولايات المتحدة النظر في دورها داخل سوق الطاقة العالمي، متخلّية عن فكرة الهيمنة الأحادية لصالح نموذج “الشبكات السيادية” التي تنسّق بين دول الإنتاج، العبور، والاستهلاك. هذا التوجه لا يعكس فقط استجابة لتحديات الحرب، بل أيضاً قراءة واعية لتراجع فعالية أدوات الإكراه التقليدية في بيئة دولية متعددة الأقطاب.
ساهمت واشنطن في إعادة هيكلة سلاسل إمداد الغاز والنفط، وتحديداً عبر دعم توسيع صادرات الغاز الطبيعي المسال (LNG)، وبناء شراكات طاقية مع دول البحر المتوسط، خاصة اليونان، قبرص، ومصر، فضلاً عن تعزيز الحضور في شرق أوروبا. هذه الاستراتيجية الطاقية اعتمدت على أدوات اقتصادية وتقنية، ولكنها في جوهرها ممارسة دبلوماسية، تستهدف بناء نفوذ مرن بدلًا من السيطرة المباشرة.
وقد بدا ذلك جلياً في التعامل مع دول الخليج، حيث فضّلت الولايات المتحدة الامتناع عن الضغوط القسرية، واختارت سياسة “التفاهم التدريجي”، التي تراعي خصوصيات كل دولة، وارتباطاتها المتعددة (كالعلاقة بين السعودية وروسيا في إطار أوبك+). هذا التوجه قلل من فعالية الضغط الأميركي في بعض اللحظات، لكنه حافظ على مناخ استراتيجي مستقر منع انهيار أسواق الطاقة العالمية.
في الميدان الأوكراني، انتهجت واشنطن سياسة معقّدة تقوم على موازنة ثلاثة محاور رئيسية؛ أولاً، دعم المقاومة الأوكرانية عبر تزويدها بقدرات عسكرية نوعية، مع تجنب منحها أسلحة قد تخرق خطوطاً روسية حمراء. ثانياً، الحفاظ على وحدة الموقف الأوروبي، بما في ذلك احتواء الأصوات الداعية لتسوية سريعة تُبقي روسيا فاعلاً أمنياً في شرق أوروبا. وثالثاً، إبقاء قناة التفاوض قائمة، مع التحكم بإيقاعها السياسي والإعلامي.
تعثر المفاوضات لا يعكس غياب النية الأميركية، بل إدراك عميق لطبيعة اللحظة؛ فموسكو تراهن على الزمن لاستنزاف الدعم الغربي، بينما كييف تسعى لتعديل موازين القوى قبل أي جلوس على الطاولة. في هذا السياق، لا ترى واشنطن أن التسرع في فرض تسوية سيكون مفيداً، بل تعتبر أن إدارة الأزمة ببطء وتأنٍ أفضل من تسوية هشة قد تنفجر لاحقاً.
الرؤية الأميركية تنبع من فلسفة الردع الذكي؛ إبقاء روسيا في موقع المنهَك لا المنكسر، وتفادي انزلاق الصراع إلى مواجهات أوسع قد تشمل دول الناتو. لذلك فإن ما يبدو تردداً في الحسم، هو في حقيقته ضبط إيقاع استراتيجي طويل النفس، يراهن على تغيير الشروط لا فرضها بالقوة.
تدرك واشنطن أن العالم لم يعد يتسع لتحالفات صلبة قائمة على الثنائية القطبية، بل أصبح يتحرك وفق منطق “التفاهمات المرنة”. من هذا المنطلق، لم تعد الولايات المتحدة تُلزم شركاءها بخطاب الصدام، بل تُقدّم نفسها كقوة تقود عبر الإقناع وتبني النفوذ لا عبر الفرض.
هذه المقاربة الجديدة تعني القبول بهوامش اختلاف في المواقف داخل المعسكر الغربي (كما بين فرنسا وألمانيا وبولندا)، دون أن يؤدي ذلك إلى تصدع التحالف، وهنا تظهر براعة واشنطن في إدارة شبكة مصالح متعددة، تتجاوز الأطر الأيديولوجية، وتحافظ في الوقت ذاته على مركزية القيادة الأميركية.
وفي ملف الطاقة أيضاً، تبنّت واشنطن هذا المنهج، فاختارت ألا تجعل من أمن الطاقة الأوروبي مجرد امتداد للسياسة الأميركية، بل عملت على توفير البنية التحتية والتمويل اللازم، بما يُمكن حلفاءها من بناء استقلالهم التدريجي عن روسيا.
لا يمكن قراءة السياسة الأميركية اليوم من منظور اختزالها بين النجاح والفشل، بل من منظور قدرتها على التكيّف مع نظام دولي يمرّ بمرحلة انتقالية. فبينما تفقد بعض القوى أدواتها التقليدية، تسعى واشنطن إلى تطوير أدوات “الردع غير الصدامي”، و”التحالفات المرنة”، و”الدبلوماسية الشبكية”، بما يحفظ مصالحها دون استنزاف.
إن تحديات ملف الطاقة وتعقيدات المشهد الأوكراني لا تكشف عن عجز أميركي، بل عن إدراك براغماتي لتعقيد المسألة الدولية، وحرص على ممارسة القيادة العالمية بمفردات العصر الجديد، لا بمنطق الحروب الباردة. ومن هنا، تبقى واشنطن لاعباً محورياً لا يُقاس حضوره بحجم التدخل المباشر، بل بقدرته على إدارة التوازنات في عالم لا يقبل الثنائيات الجامدة.