آخر التحديثاتأبرز العناوينمقال الرأي

باكستان تقف عند مفترق طرق

الاستماع للمقال صوتياً

WHIA – كاليفورنيا
 الدكتور عبيد الله برهاني

تُعد باكستان، بفضل موقعها الاستراتيجي في جنوب آسيا ووضعها كدولة نووية، لاعبًا محوريًا في التوازنات الجيوسياسية الإقليمية والدولية. استفادت باكستان من الأوضاع الأفغانية منذ الغزو السوفياتي وحتى التدخل الغربي بقيادة حلف الناتو. ورغم إمكاناتها الكبيرة، تواجه البلاد تحديات معقدة تعرقل استقرارها الداخلي وتحد من مساعيها التنموية. ومن أبرز هذه التحديات، استراتيجيتها المثيرة للجدل منذ امد بعيد تجاه حركة طالبان الباكستانية، التي تعتمد تصنيفًا مزدوجًا بين “طالبان الجيدة وطالبان السيئة ومع ذلك، أفضت هذه السياسة إلى نتائج عكسية، مما خلق مخاطر أمنية تتجاوز حدود باكستان لتؤثر على استقرار المنطقة بأكملها.

على الرغم من ادعاءات الحكومة الباكستانية بتحقيق نجاحات ضد الإرهاب، لا تزال تهديدات جماعات مثل طالبان باكستان وجيش تحرير بلوشستان قائمة، نتيجة انعدام الاستقرار بالمناطق الحدودية وضعف الرقابة على تمويلها، مما يكشف فجوة بين الخطاب الرسمي والواقع.

سياسيًا ودبلوماسيًا، يُثار تساؤل حول مدى التزام باكستان بمكافحة الإرهاب، حيث يرى بعض المحللين أن الدولة تستغل الجماعات المتطرفة كأدوات لتحقيق أهدافها الجيوسياسية والاقتصادية. وقد أشار السياسي الباكستاني المخضرم أفراسياب ختك إلى أن انتشار الإرهاب هو نتيجة مباشرة لسياسات الدولة الباكستانية الخاطئة، داعيًا إلى تبني استراتيجيات جادة لاستئصال هذه الظاهرة. وهذه التناقضات المتأصلة في السياسات الباكستانية لمكافحة الإرهاب ادت إلى تهديد مشاريع كبرى مثل الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني، مما عزز التوترات الإقليمية بدلاً من تخفيفها.

وفي السياق ذاته يرى الأكاديمي بروس ريدل أن باكستان تتبنى نهجًا مزدوجًا في التعامل مع الإرهاب؛ فهي تظهر التزامًا ظاهريًا بمكافحته بينما تستفيد من وجوده لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. هذا النهج يُضعف مصداقية باكستان الدولية، خاصة مع استمرارها في طلب الدعم المالي والسياسي من المجتمع الدولي. تشير تقارير صادرة عن معاهد مرموقة مثل “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى” و”معهد الشرق الأوسط” إلى دعم المؤسسة الأمنية الباكستانية لجماعات متطرفة مثل لشكر طيبة، لتحقيق أهداف استراتيجية، منها تعزيز العمق الاستراتيجي في أفغانستان وموازنة النفوذ الهندي. ومع ذلك، أدت هذه السياسات إلى نتائج عكسية، أبرزها صعود حركة طالبان باكستان من جديد التي تم نشأتها عام ٢٠٠٧و التي ازدادت هجماتها استهدافها المدنيين وقوات الأمن، مما زاد من زعزعة الاستقرار الداخلي والتوترات الاقليمية.

تشهد باكستان اضطرابات سياسية مستمرة نتيجة للصراعات بين الأحزاب السياسية، وضعف المؤسسات الديمقراطية، وتدخل الجيش في الشؤون السياسية. يُضعف هذا الوضع الاستقرار الداخلي ويحد من قدرة الحكومات على تنفيذ السياسات الإصلاحية. وكما أشار المحلل السياسي حسن عسكري رضوي في مقاله، فإن تدخل الجيش المستمر يعيق تطور الديمقراطية ويُضعف المؤسسات المدنية، مما يؤدي إلى تآكل الثقة بين القيادة المدنية والعسكرية.

في السياق ذاته، أوضح عقيل شاه أن الجيش الباكستاني لم يقتصر دوره على الدفاع الوطني فقط، بل امتد ليؤثر بعمق على القرارات السياسية، مما شكّل عائقًا أمام استقرار النظام الديمقراطي. تؤكد تقارير دولية أن ضعف المؤسسات الديمقراطية في باكستان، إلى جانب تدخلات الجيش المتكررة، قد أضعف الحوكمة وعرقل الإصلاحات.

تُعد التوترات الإقليمية التي تواجهها باكستان مع جيرانها، خصوصًا الهند وأفغانستان، من أبرز القضايا المؤثرة على الاستقرار الإقليمي. تمتد هذه التوترات من نزاع كشمير مع الهند إلى الخلافات الحدودية والسياسية مع أفغانستان، بينما تضيف الصراعات الداخلية والتحديات الاقتصادية أبعادًا إضافية إلى هذا المشهد المعقد.

يمثل النزاع حول إقليم كشمير واحدة من أعقد الأزمات في جنوب آسيا. يعود هذا الصراع إلى عام 1947 عندما استقلت الهند وباكستان وانقسم الإقليم بينهما. تطالب باكستان بحق تقرير المصير لسكان كشمير، بينما تعتبره الهند جزءًا لا يتجزأ من أراضيها. يؤدي هذا التوتر إلى مواجهات عسكرية متكررة على خط السيطرة، مما يضعف الأمن الإقليمي ويزيد احتمالات التصعيد العسكري,

تُعد العلاقة بين باكستان وأفغانستان معقدة بسبب النزاعات الحدودية وتبادل الاتهامات بالتدخل السياسي. يُمثل خط دوراند، المرسوم عام 1893، مصدر خلاف مستمر، حيث ترفض أفغانستان الاعتراف به كحدود دولية. إضافة إلى ذلك، تُهم متبادلة بين باكستان وأفغانستان ولاسيما أفغانستان التي تتهم باكستان بدعم جماعات مسلحة مثل داعش خراسان لتحقيق مصالحها الاستراتيجية، مما يفاقم حالة عدم الاستقرار في أفغانستان.

تواجه باكستان صراعات داخلية متعددة تشمل التوترات العرقية والطائفية، لا سيما في مناطق مثل بلوشستان وكراتشي وخيبر بختونخوا، حيث تنشط حركة قومية تطالب بحقوقها وتحظى بثقل اجتماعي وسياسي، نظرًا لأن غالبية أنصارها من الشباب ذوي الأصول القبلية. على صعيد آخر، يبرز عمران خان، رئيس الوزراء السابق والمعتقل حاليًا، كرمز سياسي يتمتع بشعبية واسعة، خاصة بين الشباب المثقفين الذين رأوا فيه أملًا للتغيير الإيجابي. ومع ذلك، حكم القضاء مؤخرًا بسجنه لمدة 14 عامًا، وهو ما قد يسهم في تفاقم الأزمات السياسية في البلاد، حيث تُجرى محاولات للتفاوض السياسي بشأن قضيته.

في الوقت ذاته، يؤدي انتشار الأسلحة غير القانونية إلى تصاعد النزاعات وإضعاف النسيج الاجتماعي. وتعاني البلاد من أزمات اقتصادية متجذرة، أبرزها ارتفاع الدين العام، تدهور العملة الوطنية، وزيادة معدلات التضخم، ومعالجة مشكلات البطالة والفقر، التي تؤجج السخط الاجتماعي وتزيد من احتمالات الاضطرابات الداخلية.

باكستان تقف عند مفترق طرق، حيث تواجه تحديات جيوسياسية وأمنية وسياسية معقدة تهدد استقرارها الداخلي وتوازنها الإقليمي. رغم موقعها الاستراتيجي، فإن تناقضاتها السياسية ونهجها المزدوج تجاه الإرهاب، إلى جانب التوترات الإقليمية والصراعات الداخلية، يجعل مستقبلها محفوفًا بالمخاطر. هي بحاجة إلى تبني سياسات أكثر شمولًا وشفافية تعزز مؤسساتها الديمقراطية، مع تغيير نهجها في صياغة علاقاتها الإقليمية والدولية، على أسس التعاون البناء بدلاً من المواجهة أو الاعتماد على تكتيكات غير مجدية.

د. عبيد الله البرهاني

أكاديمي وكاتب سياسي أميركي من أصل أفغاني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى