هيئة تحرير الشام وطالبان: تباين الأهداف والمنهجيات
الاستماع للمقال صوتياً
|
كاليفورنيا – مقال الرأي
الدكتور عبيد الله برهاني
يمكن استيعاب الفروق الجوهرية بين هيئة تحرير الشام، بقيادة أحمد الشرع (الجولاني)، وحركة طالبان الأفغانية من خلال تحليل دقيق للأهداف، الأيديولوجيا، البنية التنظيمية، والعلاقات الدولية. ورغم نقاط التشابه بين الحركتين في بعض الجوانب، فإن السياقات المحلية والإقليمية والدولية المختلفة والظروف البيئية لكل منهما شكّلت هويتهما ومساراتهما بشكل مغاير>
أولًا: المنهج الفكري والمذهبي والأهداف متباينة تماما رغم التشابه في بعض الأوجه، فإن المنهج الفكري والمذهبي والأهداف بين الحركتين متباين جدًا. هيئة تحرير الشام نشأت كفرع لتنظيم القاعدة في سوريا، ولحقت بداعش، لكنها سرعان ما تبنّت نهجًا أكثر محلية، حيث ركزت جهودها على السيطرة على إدلب وبعض المناطق السورية، مع السعي لإقامة نموذج إداري محلي بعيد عن الطموحات العالمية. بالمقابل، تبنت طالبان مذهبًا إسلاميًا تقليديًا ينتمي إلى المدرسة الحنفية الديوبندية، مستهدفة إقامة إمارة إسلامية على امتداد أفغانستان، مع الأخذ بعين الاعتبار العادات والتقاليد السائدة في البلاد بما لا يتعارض مع تعاليم الإسلام.
ثانيًا: البنية التنظيمية لهيئة تحرير الشام تعتمد اساسا على بنية شبكية غير مركزية، ما يتيح لها مرونة في التحالفات الداخلية داخل سوريا. ورغم الصراعات الداخلية، الا انها نجحت في تأسيس حكومة الإنقاذ في ادلب لتقديم إدارة محلية عكست رؤيتها السياسية. في المقابل، تتميز طالبان ببنية هرمية تعتمد على مجلس الشورى والولاءات القبلية، ما ساعدها على تحقيق تنظيم فعال وبسط سيطرة واسعة على أفغانستان، بما في ذلك إدارة مؤسسات الدولة.
ثالثًا: نجحت هيئة تحرير الشام في تعزيز العلاقات الدولية والدبلوماسية و تقديم نفسها كبديل يمكن التعامل معها دوليًا، حيث تمكن الجولاني من الوصول إلى إلغاء المكافأة المالية البالغة 10 ملايين دولار التي كانت مرصودة لأي معلومات تؤدي إلى القبض عليه. كما تمكن أيضًا من فتح قنوات اتصال مع جهات دولية متعددة. بالمقابل، أثبتت طالبان براعتها في التفاوض مع القوى الدولية، حيث أسفرت مفاوضاتها مع الولايات المتحدة عن انسحاب القوات الأجنبية. ومع ذلك، فإن مواقف طالبان الأيديولوجية الصارمة حدّت من الاعتراف الدولي بها وزادت من عزلة أفغانستان.
رابعًا: اما بخصوص تطبيق الاجتهادات الفقهية أظهرت هيئة تحرير الشام مرونة كبيرة في تطبيق القضايا الشرعية، حيث وازنت بين الخطاب الشرعي والمظاهر المدنية مراعية الظروف و متطلبات الواقع المعاصر والمرحلة. أما طالبان، فقد تبنت تفسيرًا صارمًا للشريعة، مع اجتهادات أثارت انتقادات واسعة، خاصة فيما يتعلق بمنع تعليم النساء وفرض قيود على الحريات العامة. هذه السياسات لم تثر فقط اعتراضات دولية، بل حتى خلافات داخلية بين أوساط طالبان أنفسهم.
خامسًا: أبدت هيئة تحرير الشام سياسة براغماتية ومرونة سياسية أعادت تقديم نفسها كقوة سياسية وأمنية معتدلة في شمال سوريا، مما يعكس مرونة أيديولوجية واضحة في تعاملها مع القوى الإقليمية والدولية. بالمقابل، تتميز حركة طالبان بتحفظ شديد في تعاملاتها الدولية، حيث يرى بعض أعضائها أن الانفتاح على العالم الخارجي قد يشكل تنازلاً عن المبادئ الأساسية، وهو ما يعقّد فرص اندماجها على الساحة الدولية كما لاشك ان شخصية الجولاني أدت دورًا هامًا خطابيًا وإعلاميًا وعمليًا بنبرة براغماتية ملموسة ولغة سياسية ناضجة. فقد خفف من حدة الخطاب المتشدد للهيئة في سعيه لتحقيق قبول دولي وإقليمي، كما أن تعاون الجولاني بشكل غير مباشر مع تركيا ركز على تعزيز الإدارة المحلية، حتى أنه قام بتعيين مسؤولين من الأقليات في بعض المناطق في المقابل، أظهرت طالبان قدرًا من الانفتاح السياسي من خلال التفاوض مع الولايات المتحدة في اتفاق الدوحة، إلا أنها ظلت متمسكة بأيديولوجيتها الصارمة، خاصة في قضايا النساء والتعليم، ما جعل من الصعب عليها الحصول على اعتراف دولي شامل حتى الآن. ولا تزال أفغانستان تعاني العزلة الدولية والحالة الإنسانية المزرية.
على الرغم من زيارة الوفد الأمريكي الرفيع المستوى ولقائه مع الجولاني، فإن هذه الخطوة تحمل رسالة مهمة للمنطقة بأسرها، على أن الإدارة الجديدة في سوريا جزءًا أساسيًا من تشكيل مستقبل الشرق الأوسط. كما تعكس ايضا إشارة ببدء لغة التعامل المباشر مع سوريا، بينما يكتفي المجتمع الدولي في أفغانستان بالحديث عن التعامل دون اتخاذ خطوات ملموسة أو وضع تعريف واضح لهذا التعامل، مع استمرار التحفظات والمخاوف في كلا السياقين، سواء في سوريا أو أفغانستان.
رغم التشابه في استخدام العنف وتبني الفكر الجهادي، تختلف هيئة تحرير الشام وطالبان جذريًا في الأهداف والهوية والمنهج. طالبان، كحركة قومية إسلامية ذات مرجعية “ديوبندية”، تسعى لإقامة إمارة إسلامية على أفغانستان وحققت اعترافًا دوليًا جزئيًا عبر التفاوض. في المقابل، هيئة تحرير الشام هي جماعة محلية سورية ذات خلفية جهادية مرت بتحولات أيديولوجية كبيرة، وتهدف إلى السيطرة المحلية مع تقديم نفسها كقوة براغماتية معتدلة. ورغم محاولات الجولاني محاكاة نهج طالبان، فإن الفروقات الفكرية والثقافية تجعل التشبيه بينهما غير دقيق.