آخر التحديثاتأبرز العناوينمقال الرأي

غلطة الشاطر بألف، وغلطة المرشد بِرأس نصر الله

الاستماع للمقال صوتياً

واشنطن – مقال الرأي

بقلم نشمي عربي

كنت قد تعرضت للعديد من الانتقادات، كلما تحدثت عن مدى حصافة وذكاء السياسة الإيرانية الإقليمية والدولية، وأنا إذ أتفهم هذه الانتقادات وأردها للشعور السلبي العام في المنطقة العربية الذي خلفته سياسات طهران، فإنني لا أبرر هذه السياسات، كما لا أبرر تلك الانتقادات، فالمقالة السياسية أمر ليس له علاقة بالمشاعر الشخصية، ومهمتها توصيف الأمور كماهي، بعيداً عن العواطف اتجاهها، وقد أثبتت طهران دوماً دهاءً لافتاً، ومقدرةً فذةً على التعامل مع أغلب التحديات الإقليمية والدولية التي تواجهها وتعرقل مشاريعها التوسعية، وبميكافيللية شديدة قد تتناقض مع الشكل الثيوقراطي لنظامها الديني المفترض.

هل معنى ذلك أن واضعوا سياسات إيران لايخطئون؟ ماداموا بشراً فهم قطعاً غير معصومين عن الخطأ، بمعناه التقني وليس الأخلاقي، فلامكان للأخلاق في السياسة، ولكن تاريخهم الموغل في الدهاء ودأبهم الشديد لتجنب الأخطاء، إضافةً لطبيعة حافة الهاوية التي تغلف نهجهم السياسي والعسكري والاستخباري، وحساسية الملفات الإقليمية التي جعلوها في صميم أهداف أمنهم القومي، كل ذلك سيجعل أي خطأ يرتكبونه فادحاً وبآثار كارثية على إيران وأذرعتها، بل والمنطقة كلها.

أنتقل هنا إلى مستوى آخر من الانتقادات التي لطالما تعرضت كتاباتي لها مؤخراً، ولكنها هذه المرة من مقام الردح السياسي، الذي تختص به جماعات دون غيرها، وهو يتعلق تحديداً بقراءتي لعملية حماس في أكتوبر الماضي، والتي أعتقد أن العودة لها اليوم ضرورية جداً، خصوصاً وأن كافة الأطراف تعيش مفاعيلها بشكل قلما يكون أكثر اشتعالاً وخطراً.

عندما خلصت إلى أن إيران تقف وراء عملية حماس في أكتوبر الماضي في غزة فقد بنيت ذلك على قراءة دقيقة لمشهد إقليمي لافت كان قيد التَشَكُّل، أثارَ حفيظة طهران، لتناقضه الواضح مع كل سياساتها في المنطقة، وسعيه لتجاوزها بالمطلق، أخطر مافيه أنه حَظِيَ بتوافق دولي وعربي غير مسبوق، خصوصاً أنه لا يُلْزِمْ إسرائيل بتقديم أية (تنازلات) في الملف الفلسطيني، ويحيل كافة القضايا الشائكة في المنطقة إلى حلول مبهمة طويلة الأمد، تتكفل بها حالة ازدهار تنموي واقتصادي موعودة للمنطقة كلها، ولعل أكثر ما استثار إيران هو أن منافستها الإقليمية الحقيقية تركيا قد حجزت مكانها في هذه الترتيبات الجديدة، في تناقضٍ صارخ مع كل البروباغاندا التي عودت المنطقة عليها، ولطالما أطربت بها جمهور الإسلام السياسي لحد النشوة البلهاء.

قراءتي هذه لاتنتقص من حجم المأساة التي يعيشها الفلسطينيون، ولا تقلل من فداحة سياسات اليمين الديني المتطرف في إسرائيل، وخطورتها على الفلسطينيين والإسرائيليين معاً، معطوفةً على أزمات بنيامين نتنياهو السياسية الكارثية أصلاً، والأهم من ذلك أن أكثر من سياسي إيراني رفيع صَرَّحَ علناً وعلى رؤوس الأشهاد أن (طوفان الأقصى أتى ليقلب الطاولة على الجميع)، في تأكيد واضح وصريح لقراءتي لعملية حماس في غزة منذ أيامها الأولى.

لماذا العودة اليوم لهذا المفصل تحديداً الذي من المفترض أن الأحداث المتلاحقة والمتزامنة مع ساعات نشر هذا المقال قد تجاوزته بالمطلق؟
السبب بسيط ومنطقي وواضح، وهو أن جل ماتعيشه المنطقة اليوم ماهو إلا تداعيات لزلزال 7 أكتوبر 2023.

أصاب المرشد في تقديره لجدية المشروع الذي كانت المنطقة تسير باتجاهه، ولحجم الإرهاص الذي سيشكله لكل سياسات بلاده الإقليمية، وخططها التوسعية، ولكنه أخطأ في تقدير حجم الأزمة التي تعيشها إسرائيل عموماً، ونتنياهو خصوصاً، وعدم قدرتهما على التعامل مع أي خروج عن قواعد اشتباك ماقبل السابع من أكتوبر، وأن مفاعيل الطوفان ستشمل ارتداداتها كل أذرعه الإقليمية، ولن تستثنيه هو في عقر داره، في طهران نفسها، بل على امتداد الجغرافيا الإيرانية كاملةً، الأمر الذي رأيناه في إزاحة كل من “رئيسي” و “هنية”.

فرضية سوء تقدير المرشد هذه لا تنفي إمكانية أمر آخر قد يكون أكثر وجاهةً، وهو أن المرشد والحرس الثوري القابضين على قرارات إيران الكبرى كانا يقدران تماماً حجم الأزمة التي ستخلفها مفاعيل طوفان غزة لحكومة نتنياهو خصوصاً، وإسرائيل عموماً، وأن فرص العودة لقواعد اشتباك ماقبل 7 أكتوبر ستكون شبه معدومة، إلا أن هذا الواقع الجديد على خطورته سيكون أهون عليهم من شرور المشروع الذي كانت المنطقة تسير باتجاهه بتوافق أميركي عربي إسرائيلي تركي نادر، هم الوحيدين الغير مهيئين ليكونوا طرفاً فيه، أي أنهم بواقعية وميكيافيلية شديدتين اختاروا خطراً عميماً لدرء خطرٍ أَعَم.

 إذا صح هذا المقياس، فلربما يقتضي الإنصاف أن ينطبق على قراءتنا لموقف حماس أيضاً، والتي قد تحاجج بأنها تدرك مدى استغلال السياسة الإيرانية للوضع الفلسطيني المتردي، وتوظيفها له من أجل سياساتها هي، لا كرمى لعيني الفلسطينيين وقضيتهم، وضمن سياسة إيرانية توسعية تستهدف محيطهم العربي كله، تحت يافطة مواجهة إسرائيل، لكنها ورغم ذلك تبرر لنفسها ولجمهورها التماهي مع هذه السياسة الإيرانية التي تدرك أبعادها تماماً طالما أنها تقدم لها أسباب البقاء السياسي ضمن حالة المواجهة مع إسرائيل، وبذلك تكون حماس أيضاً قد اختارت أن تواجه سياسات إسرائيل الظالمة، بسياسات إيران الأكثر ظلماً وعدوانيةً.

مهما تكن المبررات أو التفسيرات، فإن إيران وحماس في مواجهتهم للمشروع السياسي الذي كانت تسير نحوه المنطقة بتوافق دولي وإقليمي لا يشملهم، فقد أساءوا وبشدة تقدير ردة الفعل التي سيفرضها طوفانهم على إسرائيل عموماً وحكومة نتنياهو خصوصاً، والتي ستدفع المنطقة كلها إلى طلاق لاعودة فيه مع قواعد اشتباك ماقبل 7 أكتوبر، وإلى غير رجعه.

من هنا تماماً بدأ دومينو الأخطاء الذي لن يتوقف، ومابدا نصراً عسكرياً وخرقاً أمنياً كبيراً لعنجهية إسرائيل، تحول مع الأسابيع الأولى إلى أكبر مأساة إنسانية تعرض لها الشعب الفلسطيني على طول مأساته المستمرة منذ عام 48, وورقة الأسرى التي كان من المفروض أن تكون عاملاً ضاغطاً بيد حماس تحولت إلى عامل ضغط دولي وإقليمي بل وحتى تعبوي عليها وعلى قدراتها.

كان واضحاً منذ الأسابيع الأولى أن نتنياهو وحكومته استوعبوا الضربة بمنتهى الواقعية والعقلانية، وأدركوا أنهم دفعوا سلفاً ثمناً لا يمكن تعويضه، وكان واضخاً أيضاً أنهم غير مستعدين، وربما غير قادرين، على  دفعه مرة ثانية، تحت أي ظرفٍ كان، وأن موضوع رهائنهم الأسرى عند حماس صار خارج معادلة المواجهة بالمطلق، للدرجة التي قد تدفع للقول دون تردد أن نتنياهو وحكومته غير معنيين على الإطلاق بهم، بل وربما لا يمانعون في بقاءهم بيد حماس.

أدركت إيران بعد فوات الأوان أن الطوفان أسقط قواعد اشتباكها مع إسرائيل التي لطالما حافظا عليها إلى غير رجعه، وهنا سيكون من المبرر جداً طرح تساؤل مهم ومبرر، هل دهت إيران بعقل حماس واستخدمتها في مواجهتها لمشروع إقليمي يتشكل ضد رغبتها؟ أم أن حماس كانت هي الأكثر دهاءً واستوعبت لعبة إيران وقبلت عن طيب خاطر سيطرة طهران على قرارها، على طريق توريط إيران في مواجهة غير مسبوقة مع إسرائيل ستخرج الطرفين عن قواعد اشتباك لطالما حافظا عليها بإصرار ميكافيلي غير مسبوق؟

الخطأ القاتل عند من يحاولون قراءة سياسات إيران من كل الأطراف أنهم كمن يستخدم كاميرا بعدسة متواضعه جداً، سرعة فتحتها بدائية للغاية، لتصوير مشهد غاية في التعقيد والتركيب، لا يفتر عن التحول والتبدل، فإيران عندهم إما متآمرة مع إسرائيل والولايات المتحدة في كل شيء، وكل مانراه من مواجهات حقيقية بينهم ليس سوى تمثيليات، أو أنها ذلك المقاتل العقائدي الذي لن يتوقف عن قتال الجميع حتى آخر عربي، سنياً كان أم شيعياً ..!!! والحقيقة أن إيران هي كل ذلك وغير ذلك، وربما أكثر من ذلك، وبتحول وتبدل مستمرين وبما يخدم طموحاتها الإقليمية والدولية، وبمنتهى الميكيافيلية والواقعية، وفي تجرد وحياد تامين عن أية مباديء دينية أو قومية وحتى طائفية.

استوعبت إيران الدرس مبكراً، ولكن ليس بمافيه الكفاية لعكس مجرى الأحداث، ولم تفلح كل محاولاتها هي وإدارة بايدن لضبط المواجهة مع إسرائيل نتنياهو المنفلتة من أي عقال، النجاح الوحيد الذي حققته تفاهمات خامنئي-بايدن تمثل في عدم الإنجرار وراء شهية نتنياهو المنفتحة لمواجهة إقليمية موسعة، يورط فيها واشنطن، ربما بنفس الطريقة التي استجابت فيها حماس لرغبة طهران، إن صحت هذه النظرية.

زيارة نتنياهو لواشنطن في يوليو/تموز الفائت في المقابل أقنعته بصلابة الموقف الأميركي ضد الانزلاق نحو مواجهة إقليمية موسعة، في نفس الوقت الذي ضمن فيه دعماً أميركياً لا متناهياً لكل مادونها، فتفتقت عبقرية ال salesman عنده عن معادلة جديدة ومبتكرة، لا تضطره لمواجهة مع واشنطن، وذهاب لحرب إقليمية موسعة ضد رغبتها، ولكنها تطور في وسائل ومدى كل ماهو دون ذلك وللحد الأقصى، الذي لن تذهب الإدارة الأميركية إلى معارضته، وفي ترسيخ صارم لعدم العودة لقواعد اشتباك ماقبل الطوفان، فتمت تنحية أهداف نوعية جداً مثل هنية وشكر والعديدين غيرهم، وبحس ال salesman اتجاه السوق، أدرك نتنياهو أنه لايزال بحاجة ليقدم للمجتمع الإسرائيلي الذي لم يلملم جراحات طوفان غزة بعد ماهو أثمن من ذلك، كان نتنياهو بحاجة لفريسة نوعية من وزن وحجم مختلفين، وكان حسن نصر الله (وبجدارة) أكثر من تنطبق عليه هذه المواصفات.

لا أعتقد على الإطلاق بنظرية أن إيران ضحت بنصر الله من حيث المبدأ، وإن كان خطأها الاستراتيجي في تقدير ارتدادات طوفان السابع من أكتوبر هو الذي أودى به لمصيره الأسود من حيث النتيجة، ولأكون أكثر تحديداً ودقةً فإن مصير نصر الله كان نتيجة لخطأ إيران في التقدير، وإصرار حماس على توسيع دائرة مواجهتها بأي ثمن، وتفاقم أزمات نتنياهو التي كانت بحاجة لثمن كبير، لاغرابة في أنه قال في إعلانه عن قتل نصر الله: ( لقد أغلقنا حساباً مفتوحاً).
ذلك لاينفي بالطبع استعداد إيران للمساومة على مرحلة مابعد نصرالله، ومع الجميع.

كيف ستتعامل إيران مع ماهو قادم؟
وماهي انعكاسات ذلك في الملف السوري؟
لهذا حديث قادم.

نشمي عربي

كاتب سياسي سوري أميركي
زر الذهاب إلى الأعلى