فيلم “رحلة 404” خطايا النساء لا تُمحى
الاستماع للمقال صوتياً
|
القاهرة – ثقافات
بقلم أحمد المسيري
من منا بلا خطيئة؟من منا ليس لديه تجربة أو خطأ في الماضي يخجل منه ويحاول تجاوزه والمضي في حياته؟ من منا لديه القدرة على التراحم مع نفسه ومع الغير؟
يثير فيلم (رحلة 404) هذه الأسئلة، حيث يحمل الفيلم بعد فلسفي قائم على الصراع الأزلي بين الخير والشر، بين الرحمة والقسوة، بين الفضيلة والرذيلة، تلك الصراعات التي تدور داخل النفس البشرية فتخلق التناقض والتباين والتضاد المتأجج مما يصعب التنبؤ برد الفعل البشري في كثير من الأحيان، ولذلك فقد تم تقديم بطلة الفيلم وهي الشخصية الرئيسية التي يدور حولها العمل على أنها شخصية غير مثالية، محملة بالتناقضات الداخلية والغموض لتحاكي الطبيعة البشرية التي يسكنها طاقتين الخير والشر معاً.
تدور أحداث الفيلم حول “غادة السعيد” التي تجسد شخصيتها الفنانة “منى زكي” والتي تعيش حياة هادئة مع شقيقتها الصغرى “لمياء” والتي جسدت شخصيها “رنا رئيس”، حيث تعمل “غادة” في مجال المبيعات في شركة عقارات كبرى، وتستعد لأداء فريضة الحج بصحبة والدها، وفي نفس الوقت تحاول الهروب من مطاردات والدتها التي تتسم بالقسوة والجشع ولا تهتم إلا بالحصول على المال منها وإستنزافها بأي طريقة، وفي أحد الأيام تفاجيء “غادة” بوالدتها تنتظرها أمام عملها فتهرب منها وأثناء مطاردة والدتها لها تتعرض والدتها لحادث سيارة ويتم نقلها إلى المستشفى وهي في حالة خطيرة وتحتاج إلى عدة عمليات، وتبدأ من هنا رحلة “غادة” في جمع المال لإنقاذ حياة والدتها، فتقوم بإعادة التواصل مع بعض الشخصيات التي كانت تربطها بهم علاقة في الماضي وإنقطعت لنكتشف أن ماضيها كان سيء وملوث.
في الرحلة 404 لا شيء بدون مقابل
للوهلة الأولى نظن أن رحلة 404 هي الرحلة من القاهرة إلى مكة والتي تستعد “غادة” للذهاب إليها بعد توبتها وذلك لإستكمال تطهير نفسها من ماضيها حيث كانت تعمل في الدعارة، ولكننا سنجد أن الرحلة الحقيقية هي التي تخوضها “غادة” أثناء محاولاتها لجمع المال لوالدتها، رحلة تضعها في إختبار ما بين الإستمرار في التوبة أو التسليم للغواية، فعند تواصل “غادة” مع الشخصيات التي كانت تعرفهم في الماضي سنجد أن كل شخص منهم يطلب منها مقابل، بداية من “شهيرة” القوادة التي كانت تعمل معها “غادة” في الماضي، والتي جسدت شخصيتها الفنانة “شيرين رضا” حيث توافق على إعطائها المال في البداية بدون مقابل ولكن سرعان ما تتراجع وتشترط عليها العودة لمجال الدعارة لليلة واحدة فقط لأن أحد الزبائن المهمين شاهدها وأعجب بها وهذا شرطها لتقديم المال لها، ومن جهة آخرى يقوم “هشام” الذي جسد شخصيته “محمد علاء” وهو أيضاً واحد من الشخصيات التي كانت تربطة علاقة جنسية بها بعرض المال عليها كعمولة مقابل مساعدتها له في النصب على رجل أعمال وبيع قطعة أرض له ولكن هذه الأرض عليها مشاكل كبيرة، فتجد “غادة” نفسها تقع ما بين خيارين للحصول على المال إما بيع جسدها أو بيع ضميرها.
في رحلة “غادة” الشاقة ينكشف الوجه القبيح للكثير من البشر الذي يعيش في مجتمعنا فالجميع يحاول إستغلال أزمتها بما فيهم أقرب الناس إليها بدءاً من صديقتها المقربة التي تقنعها ببيع سيارتها بخسارة لصالح أحد سماسرة السيارات التي تعرفهم، مروراً بزوجة أبيها التي تقنعها هي الآخرى ببيع محل يملكه والدها بسعر بخس لأنها ترغب هي الآخرى في الحصول على المال، وصولاً إلى والدها نفسه الذي يتصف بالأنانية ولا يهتم بأزمة إبنته، ورغم كل هذه الضغوط ترفض “غادة” بيع المحل بسعر بخس لتحافظ على حق شقيقتها الصغرى، كما ترفض أيضاً نقل والدتها من المستشفى الخاص عالية التكاليف إلى مستشفى حكومي للعلاج بالمجان، ورغم عدم ذكرها السبب في الفيلم ولكن هذا لا يحتاج للتوضيح، ويرجع لسمعة المستشفيات الحكومية السيئة في مجتمعنا وإنتشار الإهمال الطبي بها، وضعف الإمكانيات الطبية، وتفشي البيروقراطية والتي قد تؤدي إلى شلل المنظومة الطبية بالكامل، فرقم الرحلة 404 هنا لا يرمز إلا ل Error 404 والذي يظهر لنا أثناء فشل التصفح والبحث على الإنترنت، مثلما يظهر طوال الوقت في حياة “غادة” أثناء بحثها عن حل لمشكلتها.
عندما يكون العهر نتيجة للفقر والخذلان والقهر
ركز سيناريو فيلم (رحلة 404) بطريقة كبيرة على رسم ملامح الشخصية الرئيسية ل “غادة السعيد” بأبعادها الدرامية الثلاثة (النفسي، الإجتماعي، الشكلي)، ولم يغفل عن إظهار تاريخ الشخصية لخلق مبررات ودوافع درامية محكمة لشخصيتها المركبة المحملة بالتناقضات، ففي الفيلم سنكتشف أن “غادة” ليست إلا فتاة من أسرة بسيطة وقعت ضحية لكل من يحيط بها، حيث تعرضت للخذلان من أقرب الأشخاص لها، بداية من والديها، مروراً ب “طارق” زميلها في الجامعة وحبيبها السابق والذي جسد شخصيته الفنان ” محمد ممدوح”، حيث لم تُسلم “غادة” ثقتها وقلبها فقط له ولكنها أيضاً سلمته جسدها فأفقدها عذريتها وتركها لنفس السبب الأخير ثم تزوج زميلتهما الشريفة من وجهة نظره، لأنها لم تُسلم له جسدها مثلما فعلت معه حبيبته “غادة”، والتي بدأت تتحسس طريقها في عالم الغواية الجنسية وتنتقل بين أحضان الرجال حتى تزوجت من الشاب الثري “طارق” والذي جسد شخصيته الفنان “محمد فراج” وظنت أنها ستستقر أخيراً لتكتشف أنه تزوجها كنوع من المكايدة والإنتقام من والدته المتعددة العلاقات الجنسية، وأن “طارق” الجديد لا يختلف كثيراً عن “طارق” القديم حيث كان الزوج مدمن مخدرات ولم يقدرها كزوجة وظلت في عينيه مجرد عاهرة إلى أن إنتهى به الحال بالذهاب للسجن بسبب تعاطي المخدرات، كل هذه العوامل كانت سبب في تحول شخصية “غادة” والتي قررت في النهاية تسليم نفسها لعالم “شهيرة” بعد أن تجردت حياتها من الأمل وفقدت الثقة في كل من حولها فتحولت إلى جسد بلا روح يلهث خلف شهواته التي تتمثل في الجنس والمال.
شرف المرأة مثل عود الكبريت يشتعل مرة واحدة أما شرف الرجل مثل الولاعة يشتعل طوال الوقت
لم يقم الفيلم بتعرية شخصية غادة فقط ولكنه قام بتعرية المجتمع حيث قدم الفيلم صورة للتعامل القاسي لمجتمعنا مع المرأة التي فرطت في شرفها مقابل التعامل مع الرجل، وقد عبر مصطلح الشرف قديماً عن العلو والرفعة، ثم تطور بعد ذلك ليعبر عن مجموعة من الصفات الحميدة كالصدق والأمانة والإخلاص والكرامة وغيرها، ولكن في مجتمعاتنا العربية يتم إختزال هذا المصطلح بالنسبة للمرأة في البكارة والعفة، فيُنظر لشرف المرأة على أنه بين فخذيها، فالمجتمع ينسى كل الخطايا ويغض الطرف عنها مثل الغش والفساد وخيانة الصداقة والسرقة وغيرها، ولكنه لا ينسى من فرطت في شرفها أبداً، فطوال العمل يُنظر ل “غادة” على أنها عاهرة حتى بعد توبتها، أما الرجال الذين كانوا يمارسون الجنس معها ومع غيرها لم يتم وصمهم حتى ولو أستمروا في ممارسة الرذيلة، وفي حالة إدانة المجتمع للرجل والمرأة معاً من باب الإنصاف فهو يكتفي بإلقاء اللوم على الرجل ولكنه لا يكف عن وصم المرأة وتذكيرها بماضيها والنظر لها بدونية وإستحقار على المستوى الداخلي مهما تظاهر بقبولها لأنها ستظل في نظره عاهرة رخيصة، وقد عبر المخرج عن ذلك في مشهد داخل فيلا “شهيرة” يرتدي فيه الرجال بدل سوداء رسمية أنيقة، وأقنعة بيضاء تخفي ملامحهم بينما تظهر النساء بوجهها المزين بمساحيق التجميل والفساتين القصيرة والمكشوفة، ورغم أنه ما كانت لتوجد مهنة العاهرة لو لم يوجد رجال زناة، ولكن يغفر المجتمع خطايا الرجال الزناة ولن يغفر خطايا العاهرات.
الرمزيات كبديل للوعظ
يعتبر فيلم (رحلة 404) من الأعمال التي استطاعت استخدام الرمزيات ذات الدلالات القوية، فجاءت طريقة السرد سلسلة وبسيطة رغم الإيقاع السريع للعمل هذا المزيج الذي جعل الأحداث مشوقة، بالإضافة إلى التوظيف الجيد لعناصر العمل السينمائي بما فيهم الإضاءة والموسيقا التصويرية وإختيار الكادرات المناسبة، وأيضاً الأداء المتمكن والمقنع للفنانة “منى زكي”، بالإضافة إلى جميع طاقم التمثيل والذي جعل المشاهد يتوحد مع العمل ويتماهى مع الشخصيات، ورغم العثرات التي واجهها العمل منذ عام 2021 بسبب الرقابة ومنعه من العرض، ولكن في النهاية نجح صناع العمل في تقديم فيلم مميز يُبرز التصادم الدائم بين قوى الخير والشر سواء داخل الفرد أو على مستوى المجتمع ككل، ورغم أن اليد العليا دائماً ما تكون لقوى الشر ولكن ستظل قوى الخير مصدر للنور الذي يرشدنا في طريقنا المظلم إلى الحد الفاصل بين الظلم والعدل والصدق والكذب والحقيقة والضلال، هذا النور الذي يرشدنا لأن نتبع إنسانيتنا.