نقوش أميركية لسجادة فارسية
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – مقال الرأي
بقلم نشمي عربي
لازلت عند رأيي المتجدد، وهو أن أي رئيس أميركي، بغض النظر عن لونه الحزبي أو السياسي، لن يكون قادراً على عدم التدخل لدعم إسرائيل عندما تتعرض لخطر حقيقي، هذه إحدى الثوابت الأميركية التي لايغير فيها أن تكون الإدارة جمهورية أو ديمقراطية، أو أن يكون الرئيس محسوباً على الصقور أو الحمائم، هذه الحقيقة فرضتها سياقات تاريخية وديناميات تتعلق بمصالح الولايات المتحدة، ومحورية كل مايتعلق بإسرائيل في الحياة السياسية الأميركية.
مع صعود تيارات اليمين الديني في كل من إسرائيل والولايات المتحدة، فقد انضاف البعد العقائدي وأهميته عند جمهور أصبح أكثر تأثراً بالرواية الدينية التاريخية، التي تدعم ولسبب مختلف لدى الطرفين تفوق إسرائيل المطلق، والأهم من ذلك مبدأ يهوديتها كدولة، وفي الوقت الذي لاجدال فيه حول العلمانية الراسخة للنظام السياسي الأميركي، فإن أغلب السياسيين الأميركيين لايستطيعون إهمال مدى تأثير العوامل الدينية في توجهات شرائح لايستهان بها من الناخبين.
استحضار هذه الثوابت في العلاقة بين البلدين ضرورة لابد منها اليوم، لقراءة الموقف الأميريكي الحالي من ضربات إيران الأخيرة التي استهدفت العمق الإسرائيلي، وللتنبؤ فيما إذا كانت إسرائيل سترد عليها عسكرياً، وشكل هذا الرد ومداه، والأهم إن كان سيحظى بدعم واشنطن، وشكل ومدى هذا الدعم، والشروط والظروف المحيطة في الرد والدعم معاً، خصوصاً وأن هناك من لا يتفق اليوم مع هذه الثوابت، مستنداً إلى التدهور الشديد في العلاقة بين الحكومة الإسرائيلية الحاليه، والإدارة الديمقراطية في واشنطن، والتي زاد من سوءها التردي الحقيقي والشديد في العلاقة الشخصية بين نتنياهو وبايدن.
في الوقت الذي لا أنفي فيه هذا التوتر، بل كنت قد استشرفته مبكراً، وتحدثت عنه باستفاضة في مجموعة مقالات متتالية، نشرتها أوائل العام الماضي تزامناً مع حزمة تعديلات نتنياهو القانونية، والتي رأى فيها بايدن انقلاباً كاملاً على مبدأ فصل السلطات في إسرائيل يهدد الأسس العميقة (لديمقراطيتها)، وارتَكَزْتُ إلى هذا التوتر فيما كتبته عن الطوفان، رغم ذلك فإنني لازلت أؤمن أن أي اختلاف أو خلاف بين البلدين، سيكون غير ذي قيمة في حالة تعرض إسرائيل لخطر حقيقي، وأؤكد هنا على كلمة (حقيقي) لمفتاحيتها في هذه المقالة.
سيكون طبيعياً لمن خالفوني الرأي في هذه الثوابت أن يستندوا اليوم إلى الموقف الأميركي الفاتر في دعم إسرائيل، والذي أكد أنه رغم تمسك الولايات المتحدة المطلق بحماية إسرائيل والحفاظ على أمنها، فإنه يدعوها لعدم الرد على الضربات الإيرانية الأخيرة، متذرعاً بأنها أتت رداً على عملية استهداف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق، ومقتل مسؤول مهم في الحرس الثوري الإيراني، والتي لم تنسق فيها إسرائيل مع المسؤولين الأميركيين، واكتفت بإخبارهم عنها عندما كانت طائراتها في طريقها لأهدافها فعلاً.
المشكلة عند من يستندون إلى هذا الفتور في الدعم الأميركي لإسرائيل اليوم، ودعوتها لعدم الرد على الضربات الإيرانية الأخيرة، ويجدون فيه خروجاً عن ثوابت الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، ويحيلونه إلى تردي علاقات الطرفين (وهو أمر حقيقي)، أنهم يستحضرون هذه الثوابت، بقصد نفيها، ولكنهم يقفزون عمداً فوق أهم شروطها، والتي اختصرها وصف الخطر المحيق بإسرائيل بالحقيقي، ومن هنا كانت مفتاحية هذه الكلمة، فهل شكلت الضربات الإيرانية الأخيرة على العمق الإسرائيلي أي خطر حقيقي فعلاً؟
الإجابة على هذا السؤال ليست أمراً مستحيلاً ولا معقداً، كل مايتطلبه الأمر هو نظرة على نوعية الأهداف التي طالتها الضربات، والتي لم تشمل أي موقع ذي قيمة عسكرية أو أمنية أو اقتصادية مهمة، وبإحصاء الخسائر البشرية والمادية التي تسببت بها، يتبين بسرعة أنها كانت في حدودها الدنيا، بل ربما دون ذلك، وهذا يحيلنا إلى المشكلة الأعقد عند العديد ممن يحاولون قراءة العلاقات الأميركية الإسرائيلية، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بإيران، والذين تسيطر عليهم نظرية المؤامرة المطلقة التي يختصرونها في تحالف أميركي إسرائيلي إيراني ضد كل ماهو عربي …!!! اخترعوه وصدقوه ولايريدون الخروج من تأثيره في ضمائرهم، حتى لا أقول عقولهم، لأن العقل (السوي) قد لايكون قادراً على تقبل هذه الرواية التي تحاكي الغرائز لا العقول، خصوصاً عندما يعطيها البعض بعداً دينياً طائفياً فيصبح الثالوث (صليبياً صهيو-صفوياً)، يستهدف تحديداً أهل السنة والجماعة..!!!! في ابتعاد مطلق عن العقل والمنطق، الذي يضع الأمور في نصابها الواقعي، وهو أن الولايات المتحدة عرفت كيف تستفيد من التناقضات الكبرى في المنطقة، ومن ضمنها تناقضات إيران مع محيطها، والتي لا يضير الولايات المتحدة أن تديرها بما يحافظ على مصالحها وأمن إسرائيل معاً، مع إعطاء إسرائيل الحرية المطلقة باستعمال قوتها العسكرية في حال خروج إيران عن الحدود المقبولة للمواجهة، مقابل ضمانات أمريكية بالتزام اسرائيلي مماثل.
هذه التفاهمات تخرج أحياناً عن الحدود المقبولة، هنا يأتي الدور الأميركي ليضبط الإيقاع لتعود الأمور إلى النصاب المقبول، وهذه ألف باء السياسة في كل الأزمنة والأمكنة، بعيداً عن المؤامرات وخيالاتها وإسقاطاتها الطائفية، لا شذوذ عن القاعدة هنا، وإن كانت إسرائيل رأت في عملية حماس في أكتوبر الماضي خروجاً غير مباشر عنها، ماكان ليتم دون دعم إيراني لم تنكره حماس بل لطالما كرر مسؤوليها الحديث عنه، فإن تسلسل المجريات يفيد بأن إسرائيل ردت عليه بحزم وتصميم بعملية نوعية استهدفت القنصلية الإيرانية بدمشق، نجحت بتصفية الجنرال”زاهدي” الذي يدير نشاطات الحرس الثوري الإستخبارية في المنطقة، والتي كان يقوم بها سلفه الجنرال “قاسم سليماني”.
العملية الإسرائيلية المدروسة بعناية، وبغض النظر عن الخسارة المؤلمة التي تسببت بها لإيران، إلا أنه كان من الواضح جداً لمن يقرأ جيداً أن لها هدف أبعد من ذلك بكثير، وهو ضرب التفاهم الضمني المستجد بين واشنطن وطهران على حرمان “نتنياهو” من فرصة توسيع حربه في غزة إلى حرب إقليمية موسعة، ستكون رغم خطورتها العسكرية (الحقيقية) نقطة الفرق النوعي التي ستضطر أي رئيس أميركي للتدخل عسكرياً لصالح إسرائيل، ويعيد حشد الجبهة الداخلية في إسرائيل خلف حكومة “نتنياهو” بما قد يؤمن له طوق نجاة سياسي، يحتاجه بشدة، الأمر الذي لايرغب فيه “بايدن” وبنفس الشدة، فهو في غنى عن اختبار مدى ولائه لإسرائيل في عام انتخابي يعاني فيه أساساً من تحديات غير مسبوقة.
الإيراني قاريء ممتاز، وصبور، وجرحه النازف في “المزة” لم يمنعه من فهم هدف “نتنياهو” الأبعد، وفداحة خسارته ل “زاهدي” لن تدفعه للخروج عن تفاهماته مع “بايدن”، فقد صمما معاً، كلاً لأهدافه الخاصة به، على منع “نتنياهو” من تحقيق هدفه في دفع المنطقة لحرب إقليمية يتمناها، ولكنه (الإيراني) بنفس الوقت يجد نفسه مضطراً لمواجهة مشكلة قائمة أصلاً مع جمهوره الذي يرى أنه بعد أن دفع باتجاه عملية حماس في 7 أكتوبر، ترك الفلسطينيين لأقدارهم في مواجهة رد إسرائيلي صاعق وماحق مازالوا يدفعون أثمانه، وربما سيستمرون بالدفع لفترة ليست بالقصيرة، ومن هنا كان لابد من رد إيراني يحفظ ماء الوجه، والتفاهمات مع “بايدن” معاً.
على العكس تماماً من عملية “المزة” جاء الرد الإيراني تحت عنوان واضح جداً:
أكبر كم ممكن من التهويل الإعلامي، مقابل أقل تأثير حقيقي ممكن، ليثبت الإيراني مرة أخرى مهارته الشديدة وصبره الذي لاينفذ، محافظاً على تقديم نفسه بإصرار للأميركي كعدو يمكن دوماً الثقة بحكمته، في الوقت الذي لم يدخر فيه “نتنياهو” فرصة واحدة لتأكيد نفسه كصديق لن يتخلى يوماً عن حماقته وغروره.
الأميركي الذي حَيَّرَ الكثيرين رغم بساطته الشديدة، سيبقى دوماً عملياً جداً، وهو في الوقت الذي لايجد فيه أي ضرورة لدفع الإيراني لتغيير حرفته القديمة في حياكة السجاد الفاخر، يعمد إلى خيار أكثر واقعيةً، يتلخص بالإستفادة من كل الظروف، ليقترح لحائك السجاد الفارسي نقوشاً أميريكية عصرية، تفي بأغراض الطرفين، ولو مرحلياً، السؤال الذي يبقى مفتوحاً هو: هل سينجح الطرفان في بيع هذه السجادة لتاجر آخر اسمه “بنيامين نتنياهو” لايزال، وربما سيبقى، يعيش عقدة أنه أفضل مندوب مبيعات (salesman) في العالم؟ تلك المهنة التي مارسها بشطارة خلال حياته في الولايات المتحدة، لدرجة أنه لايتمكن اليوم من الخروج من بدلتها الأنيقة ليكون رئيس وزراء فعلي؟
الأيام وربما الساعات القادمة قد تحمل جواباً على ذلك، الأمر الوحيد الثابت هو أنه لايخرج من مشكلة إلا ليقع في مشكلة أكبر، وربما عن اختيار وتصميم، فبأي اتجاه ومتى ستكون مفاجأته القادمة؟