الطوفان و ’المكارثية الجديدة’
الاستماع للمقال صوتياً
|
مقال الرأي – البيت الأبيض بالعربية
بقلم نشمي عربي
مع نهاية الحرب العالمية الثانية بدأت معالم معركة من نوع آخر تلوح في الأفق، ربما كانت أقل ضجيجاً، ولكنها أكثر شراسةً، وأوسع مدىً، ورغم أنها دعيت بالحرب الباردة، إلا أن خفاياها انطوت على مواجهات حامية، وتركت آثاراً ومتغيرات عميقة تجاوزت مجتمعات الستار الحديدي لتطال الحياة السياسية والإجتماعية في العالم الحر، وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية.
أن تعكس سياسات الولايات المتحدة المناهضة للإتحاد السوفياتي والدول التي تدور في فلكه عداءها للشيوعية لهو أمر طبيعي جداً، الغير طبيعي هو أن يتحول هذا العداء إلى هَوَسْ يترك آثاره العميقة داخل المجتمع الأميركي، لتكون “المكارثية” سيفاً مُسلطاً على رقاب الأميركيين، وفي مقدمتهم النُخَب الفكرية والأدبية والفنية, وعليهِ فإنه ليس من المصادفة أن يكون العقد بين عامي 1947-1957 والذي قضاه السيناتور “جوزيف مكارثي” عضواً في مجلس الشيوخ عن ولايته المحافظة “ويسكونسن” شاهداً على تصاعد المد المعادي للشيوعية، فعلى إيقاع الحرب الباردة عاش القاضي السابق حالة هَوَسٍ جنونيٍ دفعه إلى توجيه تهمة الشيوعية بالجملة ودون أي أدلة فعلية للعديد من موظفي الخارجية الأميركية، لتتوسع لاحقاً دائرة الاتهامات وتشمل أسماء علمية وفكرية وأدبية مرموقه مثل ألبرت أينشتاين، مارتن لوثر كينغ، آرثر ميللر، بل وحتى الممثل تشارلي تشابلن.
لأن الديمقراطيات دوماً تصحح نفسها، ولو بعد حين، فقد سقطت اتهامات مكارثي سقوطاً مدوياً، ووجه له القضاء الأميركي تهمة التزوير والفساد، وأدانه الكونغرس، ليتحول إلى مدمن انتهت حياته بالتهاب الكبد الفيروسي ولم يتجاوز عمره 48 عاماً، ولتبقى “المكارثية” رمزاً لكل إرهاب فكري أو ثقافي يمارس ضد الكتاب والمثقفين والفنانين، وكل أصحاب الفكر الحر.
إذا كانت “المكارثية” نهجاً قمعياً بوليسياً يستهدف الأفكار والآراء، فإن توظيفها كان في الغالب سياسياً يخدم أجندات سياسية معينة، تراعي مصالح جماعات ودول وقضايا دون غيرها، بغض النظر عن مدى أحقية أو عدالة هذه القضايا أو ظلمها وبطلانها، خاصةً وأن هذه الأمور نسبية بامتياز في عالم السياسة، الأمر الذي تجلى بوضوح في المواكبة الإعلامية (من كل الأطراف) لطوفان السابع من أكتوبر/تشرين المنصرم، والذي تنوعت تسمياته حسب مواقف أصحابها، بين طوفان القدس، وطوفان الولي الفقيه.
لقد كان إصرار العديد من المحاورين في الإعلام الغربي، وبعضهم من المرموقين، على أن يبدؤوا حديثهم مع محاوريهم بالسؤال الذي تحول إلى (كليشيه) فارغة، وفاقعة اللون: (هل تدين مافعلته حماس؟) أحد أشكال عودة المكارثية البغيضة، لاأقول هذا الكلام دفاعاً عن حماس التي كنت ولازلت أنتقدها، هي وكل تجليات الإسلام السياسي العربي الذي لم يعرف كيف يتحول لفاعل حقيقي بشرعية شعبية في الحياة السياسية العربية، ولكن دفاعاً عن القيم الديمقراطية التي من المفروض أنها تحكم أخلاقيات إعلام العالم الحر، ليس فقط لأنها تتجاوز كل أصول المشكلة وصولاً إلى أحد نتائجها، ولكن لأن في فخ اصطياد المواقف هذا متاجرةً بأمن المدنيين، إسرائيليين وفلسطينيين على السواء، وبازدراء متعمد لكل النكبات التي تعرض لها المدنيون الفلسطينيون، مقابل موقف إعلامي لن يشكل في أقصى حالاته حتى ورقة توت تستر عورة “بنيامين نتنياهو” وفشله السياسي الذي قاده للارتهان لأجندات اليمين الديني الإسرائيلي المتطرف، بكل ماتشكله من خطر على المنطقة كلها، بدايةً بالإسرائيليين قبل غيرهم، والتي أوصلت الجميع، اسرائيليين وفلسطينيين، عرب وغربيين، إلى هذه الورطة السياسية والإنسانية، بكل ماتمثله من مأساة مؤلمة، مَحَت بعنف كل مساحيق التجميل الرخيصة عن وجوه الجميع، دون استثناء، وفي مقدمتهم ما كان يعرف ب (محور المقاومة والممانعة) الذي اختار عن سابق تصميم ترك الفلسطينيين ضحايا أقدارٍ لم تكن من صنعهم، ولاتبالي بانعكاساتها الكارثية عليهم.
المواقف الإعلامية في المقلب المقابل، من مقالات وتصريحات وتحليلات، كانت تعاني ارتهانها لازدواجيةٍ محكمة، تتمثل في معادلة بحدين متوازيين مسيطرين بشدة، الأول يفرضه شعور وطني جارف يستند إلى خصوصية القضية الفلسطينية في الوجدان الجمعي العربي والإنساني، ولكنه رغم استناده إلى مشروعية وواقعية الحق الفلسطيني، لم يستطع أن ينقلها من حيِّزِ الوجدان إلى أرض الواقع، فتحول هذا الالتزام الشديد مع انقضاء عقود من الزمن إلى ماهو أقرب للهوى في النفوس، في ابتعادٍ متصاعد عن الحقائق على الأرض، لحد الإنفصال الكلي عنها، يقابله في الحد المقابل شعور دفين بالضغينة نحو كل القوى الكبرى المؤثرة في القضية الفلسطينية، هذه الضغينة التي يبررها حتماً انحياز مطلق ومزمن لأغلب تلك القوى ضد الحق الفلسطيني خصوصاً والعربي عموماً، ساهمت أيضاً في ترسيخ تنميطات جامدة في الذهنية العربية، تحولت مع الوقت إلى مُسَلَّمات بالية، ساهمت سلباً في قدرة المواطن العربي على قراءة حقيقية وواقعية للمشهد السياسي الدولي والإقليمي، الذي لايؤمن بأي مسلمات ثابتة، بل بمصالح متحركة ومتبدلة.
بين الضغينة والهوى، تأرجحت مواقف ومقالات وتحليلات أغلب من تابعوا الطوفان، وفي الوقت الذي كان العرب عموماً والفلسطينيون خصوصاً أحوج مايكونوا إلى قراءة حقيقية واعية ومستَحَقَه، تتجاوز الأماني إلى الواقع، والهوى إلى اليقين، والإثارة إلى الحقيقة، تدرك بواقعية دقيقة كل مايدور حولهم، والمواقف الحقيقية لكل الدول الفاعلة في قضيتهم، والأهم من ذلك السياقات التي أتت من خلالها، فوجئوا بسيل جارف من التحليلات التي لاتمت للواقع بصلة، والقراءات التي لم تستطع أن تخرج من سياقات الضغينة والهوى التي أكرّر دوماً أنها مبررة حتماً، ولكن غير المبرر هو أن تتحول إلى مقدسات لايمكن المساس بها، تتحكم وحدها بعقلية المتابع العربي وقدرته على قراءة الأحداث من حوله.
من التحليلات الماوراء واقعية مثلاً تلك التي أكدت عشرات المرات منذ أكتوبر المنصرم سقوط دولة إسرائيل خلال أيام معدودة، ليس من المصادفة أبداً أن أصحابها هم أنفسهم من أسقطوا النظام السوري منذ عام 2011 حتى اليوم عشرات المرات، ومن على المحطات نفسها التي عرفت باقتدار كيف توظف عذابات ونكبات الشعبين الفلسطيني والسوري في مادة إثارة تنحدر بامتياز لمستوى (البورنو السياسي) القادر على حصد أكبر عدد ممكن من المتابعات، بأقل كم من الحقائق، والكثير من الخيالات، ولعلها إحدى المفارقات الكبرى أن هذه المحطات في تبنيها للكثير من اللاواقعية في مواد محلليها، تبتعد تماماً عن ذكر العديد من السياسات المغرقة جداً في الواقعية والتي تدور في محيطها الجغرافي القريب، بل والقريب جداً.
لا أحاول أبداً الهمز أو اللمز من الجهد السياسي القطري الذي واكب الأحداث منذ بدايتها، وربما قبل ذلك، بمافيها رعاية الدوحة لمباحثات جادة وعميقة بين الطرف الإسرائيلي ممثلاً بمدير الموساد، والطرف الفلسطيني ممثلاً بقيادات حماس، برعاية أمريكية تجلت في حضور “نيكولاس بيرنز” مدير ال CIA انطلاقتها، بل وأجد في هذا الجهد الكثير من الواقعية السياسية والتوجه العملي نحو إيجاد مخارج ربما تساعد في وقف المأساة الإنسانية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، رغم ماتحمله في دلالاتها شكلاً ومضموناً من تناقض صارخ مع منتهى اللاواقعية الذي تحمله تحليلات محطات الإثارة السياسية الآنفة الذكر.
دخل الإسلام السياسي على خط الطوفان ليتبناه وكأنه يمثله، ولكن على طريقة (الشريك المضارب) !!فأي انتصارات يحققها هي انتصار له، ولكنه يعرف كيف ينأى عن الخسائر التي يدفعها الفلسطينيون اليوم دموعاً ودماً وقهراً وجوعاً وعطشاً وتشريداً، ومن هنا تم توظيف كافة المنصات ذات التوجه الإسلامي في حملة إعلامية ظاهرها الانتصار للحق الفلسطيني ولكن بتفعيل قراءات وتحليلات لاتمت للواقع بصله.
لم يكن تبني هذا الخط حكراً على أقلام تمثل الإسلام السياسي فقط، فقد انسحب أيضاً على مواقف كتاب وأدباء ومفكرين مرموقين، هم أقرب للتيار القومي العروبي، لايوجد أدنى شك في صدق توجهاتهم الوطنية والقومية وإيمانهم بالحق الفلسطيني ومشروعية قضيته، ولكنهم كانوا أيضاً أسرى معادلة الضغينة والهوى، التي أضحت سمةً فارقةً لكل مايكتبون وينشرون تزامناً مع الطوفان الذي جرف معه ماكنا نتوخاه فيهم من قراءة أمينة وصادقة وواقعية، غير متأثرة بهواهم المشروع حتماً في قضيتهم المحقة، أو ضغينتهم المزمنه اتجاه أي موقف غربي، مما حرمهم فرصة قراءته بوضوح ضمن ظروفه ومعطياته، الأمر الذي تجلى بوضوح في تجاوزهم عن سبق إصرار وترصد لمواقف وكتابات وتصريحات العديد من المفكرين والمحللين والصحافيين الغربيين الغير مسبوقة في مناصرتها للحق الفلسطيني والأهم تبنيهم لنظرة أكثر واقعيةً وعدلاً لقضية الصراع العربي الإسرائيلي، بمواقف تجاوزت في كمها ونوعها كل مانشر في العديد من وسائل الإعلام العربية نفسها، بمافيها تلك المحسوبة على الخط (المقاوم والممانع).
كان شكلاً من المكارثية البغيضة أيضاً التهجم على كل من لايتبنى تحليلات وقراءات كارثية لاتمت للواقع بصلة، وتصويره على أنه معادٍ للحق الفلسطيني، وكيل اتهامات مضحكة له، وربما إخراجه من الملَّة بالمطلق.
رحل “جوزيف مكارثي” ولكن المكارثية لاتزال نهجاً غير موقوف بالضرورة على أصحاب القضايا الظالمة، بل قد ينسحب عن قصد أومن دونه على العديد من القضايا العادلة والمحقة، والتي تستحق مقاربات عقلانية وأمينة، بعيداً عن الإثارة والعواطف والأهواء.
مشكور اخ نشمي تحليل في الصميم
كل الشكر والتقدير صديقي الغالي.
تحليل شامل وموضوعي كثر الله خيرك ومن أمثالك ، وبارك الله في قلمك.
بارك الله بكم، وكل الشكر والتقدير لكم.
تحياتي القلبية.
تحليل منطقي وموضوعي ورزين… سلم ذهنك وسلمت يداك
شاكراً ومقدراً مروركم الجميل وتعليقكم الكريم صديقي العزيز.
عودة الفكر المكاريثي البغيض إبان طوفان الأقصى للأعلام الغربي و الإرتهان العربي و القومي لمعادلة الهوى و الضغينة…فالسيد نشمي يتقن فن الغوص في بحر السياسة من خلال تحليلاته فهو يمسك بخيوط الحدث و الموقف بشكل منطقي عقلاني لا عاطفي و جداني
سلمت يُمناك يا سيدي ….مقال غني و فيه مادة دسمة للمتلقي ……..
كل الشكر والتقدير لمرورك الجميل وتعليقك الكريم. تقبل مودتي وتقديري دوماً.