تجديد الخطاب الديني في الراهن العربي
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – أوراق استراتيجية
بقلم مرح البقاعي
يشكّل الإسلام مكوّناً أساساً في النسيج الثقافي الجمعي للمجتمعات العربية، بخاصة، والمسلمة، بوجه العموم.
لكن أين يقع الإسلام اليوم من هيكلية الدولة بمؤسساتها ومرجعياتها وبيئتها السياسية؟ وما هي أسباب تحوّل مجتمعات الشرق الأوسط من الازدهار والانفتاح والتعددية في عصرها النهضوي الذهبي، إلى ما آل إليه حالها اليوم من تكتلات دينية وعصبية معزولة وناشزة؟ وما هو الدور الذي يفترض أن يلعبه الإسلام في مسيرة المجتمعات المعاصرة؟ وهل يستعدي هذا الدور حراكاً فاعلاً وواعياً في موقع التجديد والإصلاح لـ “المفهوم” الديني، وفي تجاوز حازم لـ “الوثنيّ” من هذا المفهوم؟ وما هي درجة قابلية الخطاب الإسلامي للتجديد في ظل المقولات المتشدّدة التي يعتقد أصحابها أن الإسلام -بنيوياً- دين لا يميّز بين ما هو زمني دنيوي وروحي عقائدي، وبالتالي هو غير قابل للتجديد؟ وإذا ما كان هناك بوادر للتجديد الديني الإسلامي فهل سيكون على طريقة مارتن لوثر في إصلاحه للكنيسة الكاثوليكية في القرن الخامس عشر، ليقوم على أيدي رجال وعلماء الدين، أم أن للدولة، والمجتمع، والمثقفين موقعاً في هذا التجديد؟
من البديهي القول إن الجدل القائم بين أطراف ثالوث: الإسلام ـ الدولة ـ المجتمع، والذي تحوّل إلى مواجهات فكرية وسياسية ـ وأحيانا عنفية ـ تجلّت في ممارسات الجماعات الدينية المتطرفة، إنما ينطوي على رهانات واستحقاقات لا بد من الاعتراف بها ومعالجتها من أصولها، استحقاقات تتمحور حول رؤيتنا للإسلام، وقراءتنا لنصوصه، في ظل المتغيرات والتحولات الكونية.
لا تكمن المعضلة هنا في النص الديني الإسلامي، فهو نص ثابت لم يتغير منذ تدوينه، بل هي تقبع في الصلب من المجتمعات الإسلامية بوصفها امتداداً تاريخياً وثقافياً وجغرافياً للإسلام، مجتمعات نأت بنفسها عن قراءة الحالة المدنية في شريعة الإسلام، ودرجت على استحضارها كمفهوم عقائدي سياسي جامد غير قابل للعصرنة والتحديث.
إن غياب “حاسة النقد” للخطاب الديني وتراجع “الفعل الاجتهادي” في النص، هما ـ مجتمعان ـ ما أجّج الصدام، المتواصل أصلاً، بين الجماعات الإسلامية من جهة، والتيارات العلمانية، من أخرى، الأمر الذي أودى إلى تعاظم الاحتقان الاجتماعي في ظل غياب أرضية مشتركة للحوارعلى المستوى “الرؤيوي” بدايةً، ومفاعيله على مستوى التطبيق السياسي، نتيجةً؛ أرضية تجمع فئات المجتمع كافة بجماعاته وتياراته وتنظيماته، المدنية منها والدينية، من أجل صياغة عقد اجتماعي جديد لا يبتعد عن الدين “جوهراً” ولا يتماهى فيه “فعلاً سياسياً”، بل يقف على مسافة واحدة من الأديان والمذاهب والأطياف السياسية كافة، في ظل تمكين مفاهيم الدولة المعاصرة التي أسّها ومرجعيتها “المواطنة” لا “الدين”؛ الدولة المعاصرة التي تقوم على فصل السلطات، وإطلاق الحريات العامة، وإقرار التعددية السياسية، ومداولة السلطة، وتمكين المرأة، وإحقاق التكافؤ في الفرص، ودفع عجلة العدالة الاجتماعية. وفي ظل هكذا تحوّل “دراماتيكيّ” في علاقة الإسلام بالشأن السياسي، يغدو دور الجماعات الإسلامية ـ حصراً ـ دوراً “دعوياً” يتداول القيم الإسلامية، التي هي أصلاً قيم إنسانية وأخلاقية وضميرية، ما يمهد الطريق واسعاً للاجتهاد وتجديد الخطاب الإسلامي، ونقده، لتخليصه من الشوائب والتراكمات الزمنية، والتمكّن، تالياً، من أدوات تفعيل حركة التنوير النهضوي المرتجاة بعيداً عن التجاذبات السياسية المعطِّلة.
وعليه، فإن تجديد الخطاب الإسلامي يرتبط عضوياً بعملية “دولنة الإسلام”، أي “تداول” الإسلام ضمن فضائه الحيوي، الذي مساحته ضمير الفرد الشخصيّ والإدراك الجمعيّ الوجدانيّ، وذلك إثر تفكيك المفهوم الإسلامي إلى جوهره الاعتقادي الروحي الأول كونه علاقة منفردة ومتفرّدة بين الفرد والله، لا ثالث لها، ولاوسيط منها؛ هذا يترافق مع مواجهات نقدية ملزِمة لسياسات “أسلمة الدولة” وما تفرزه من غيبيات وإفتاءات جماعية قسرية، في ظل من الاحتقان السياسي والاصطفاف المذهبي والانقسامات العقائدية السياسية التي تضع منطقة الشرق الأوسط برمتها على حافات الهاوية!
تحضرني في الراهن تجربة المملكة العربية السعودية في التحديث الشامل والتنمية المستدامة والتطوير المجتمعي، وهي خطط استراتيجية تتقدّم بحيوية مذهلة وواعية لمعطيات ومتطلبات العصر، وتجري أحداثها على الأراض السعودية الممتدة الأرجاء، والتي تقع على مفصل جغرافي ديناميكي يربط القارات الثلاث.
فالمملكة العربية السعودية التي تشكّل العمق العربي والإسلامي الأثرى والأعرق، بتنوعه الثقافي ومقوماته الجغرافية والحضارية والاجتماعية واقتصادياته متعددة المشارب والأصول، نراها تحولت إلى ورشة عمل مستدام لتنفيذ برامج ’رؤية 2030’ التي أطلقها ويرعاها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان – أمير التجديد والاجتهاد المعاصر. ورشة التحديث والتنمية هذه ستغطي محاور عديدة في بناء الإنسان والانفتاح على الثقافات وتنويع الاقتصاد وتمكين المجتمع المدني، وهي المحاور واعدة تتكامل وتتّسق فيما بينها نحو تحقيق أهداف المملكة التجديدية ورؤيتها المستقبلية في التنمية والتطوير المستدامين والشاملين للمملكة، وللشرق الأوسط.
أما في التاريخ القريب، فلا بد من الوقوف على تجربة الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة؛ فرؤية بورقيبة الخاصّة للخطاب الديني الإسلامي التي تؤسس لإعادة تفعيل الاجتهاد، وكذا توجهاته العلمانية التي تجلّت في الإصلاحات المؤسسية التي نفّذها في السنوات الأولى للاستقلال، وفي مظاهر العلمنة والتحديث الثقافي التي تضمنها خطابه السياسي، جعلت ـ مجتمعةً ـ اسمه يقترن باسم الزعيم التركي مصطفى كمال أتاتورك في تناوله لقضية الإصلاح الديني في الدول الإسلاميّة. إن علاقة بورقيبة الجدلية بالدين والقضايا الإسلامية التي عالجها منذ نصف قرن، لا تزال في موقع الأخذ والرد في معظم الدول الإسلامية، وأضحت إثر أحداث الحادي عشر من سبتمبر محور تداول عالمي.
أستعير في هذا المقام قول المفكّر التنويري محمد عابد الجابري: “إن مستقبل التقدّم الحضاري العربي والنهضة العربية، لن يتما إلا على أساس نقدي عقلي. وأن هذا الأساس لا يتناقض مع العاطفة القومية، ولا مع الحلم الأيديولوجي. بل على العكس، فمراجعة مفاهيمنا، ونقدها نقداً عقلانياً مستنداً إلى الواقع كما هو مُعطى، هو السبيل الوحيد الذي سيقودنا إلى تشييد حلم أيديولوجي مطابق، وإلى العمل الجدّي المتواصل من أجل تحقيقه”.
فصل المقال أنه قد أضحى من الحتميّ في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ “المسألة الدينية”، وتداعياتها الاجتماعية والسياسية، أن نطرح المعضلة على طاولة الحوار، ونعمل على قراءة حيثياتها وأبعادها قراءة نقدية متأنية ومعمَّقة بعيداً عن الأفكار الجاهزة، وعن العصبية ـ دينية كانت أم سياسية ـ، وكذا عن النظر الضيق والمفصّل على مقاس الحدث العابر لا على امتداد سيالة التاريخ الموصول، ونسعى ـ نتيجةًـ إلى الخروج بموقف موحّد وموضوعي ومنسجم مع الذات، ما يمكّن من توحيد الإمكانات، والوصول إلى إجماع شعبي عريض لمنهجية توافقية تستوعب مخاطر هذا المنعطف التاريخي وتستجيب لتسارع المتغيّرات الدولية في السياسة والثقافة والاقتصاد، منهجية هي أقرب إلى “ثالوث” يتشكّل من “حراك” الحداثوي العالمي، و”مذاهنة” الثقافي العربي، و” استلهام” الديني الإسلامي.
نُشر المقال لأول مرة في العام 2008 وتم تحديثه وإعادة نشره في هذه النسخة.
تكمن أهمية المقال في أنه لَحِظَ العلاقة المهمة بين تطوير ظروف الحياة المجتمعية، بما فيها الإقتصادية، وتجديد الخطاب الديني، فهما وإن كانا موضوعان مختلفان، إلا أن الأول يجسد بلاشك ضرورةً لشروط تحقق الثاني، ومن هنا تأتِ أهمية هذا الطرح، في هذه المرحلة المفصلية في مسار المنطقة.