واشنطن/غزة.. منطقة التفكير المحرَّمة
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – مقال الرأي
بقلم نشمي عربي
أعود لدخول المنطقة الحرام مُدركاً أن ما سأقوله سيفتح عليَّ أبواب انتقاداتٍ شتى، ومن أطراف متعددة، بعضهم يعلم تماماً ما أتحدث عنه، وبعض آخر يعتقد أنه يعلم، وبينهما سواد أعظم لايهمه أن يعلم، فهو متمسك بقناعات ومقولات شب وشاب عليها، وهو غير مستعد لمناقشتها أو حتى التفكُّر بها مع نفسه.
مشكلة القناعات السياسية أنها تنطوي على تناقض كبير، فالقناعة أمر ثابت، لايقبل النقاش، ولكن السياسة أمر متحرك باستمرار، تؤثر فيه عوامل شتى، متحركة أيضاً، ومتغيرة دوماً, رغم ذلك فالقناعه بانحياز الولايات المتحدة لصف إسرائيل لها مبرراتها الحقيقية ومايدعمها على أرض الواقع، فالولايات المتحدة ولأسباب متعددة كانت دوماً منحازة لصف إسرائيل، وأحياناً كثيرة على حساب المصالح الأميركية نفسها، فمابالنا بالمصالح الفلسطينية أو العربية، هذا في حال كان هناك اتفاق فلسطيني أو عربي، ولو في حدوده الدنيا، على شكل هذه المصالح، يدركها، ويفهم ماهيتها، قبل أن يتوقع من الولايات المتحدة أو غيرها مراعاتها.
فهم الموقف الأميركي من إسرائيل لايعني أبداً تبريره، ولكنه أمر ضروري للتعاطي معه، وبدايةً ينبغي إدراك أمر هام جداً، وهو أن إسرائيل وأيرلندا، وإلى حدٍ ما إيطاليا، والذين يشار إليهم ب ال three I’s (أحرف الآي الثلاث)، هي شأن داخلي، يحظى باهتمام أطياف واسعه من الأميركيين، عكس السياسة الخارجيّة، التي لا يولونها عادةً اهتماماً كبيراً، وإن كان وجود مجتمعات أميركية واسعه ومؤثرة من أصول إيرلندية وإيطالية يبرر مدى اهتمام أي مرشح لأي منصب بقضاياها، ومصالح بلادها الأصلية، فإنه ليس سراً أن تأثير اللوبيات اليهودية وكذلك بعض التيارات المسيحية اليمينية المتحالفة معها، والذي يكون فعالاً ومؤثراً جداً في وسائل الإعلام والتواصل، يساهم بشكل مباشر في المواقف الأميركية الداعمه لإسرائيل، وإن كان هذا الدعم في أحيان كثيرة على حساب المصالح الأميركية الحقيقية في المنطقة، ممايؤكد مدى قوته وإصراره، ولأن هذه اللوبيات جزء أصيل من النظام السياسي الأميركي، فهي تقرأه وتفهمه وتتعامل معه بدقة شديدة.
تدرك هذه اللوبيات أن الرئيس الأميركي هو من يضع سياسة بلاده الخارجية، وأن مهمة وزارة الخارجية ومجلس الأمن القومي تنحصر في إيجاد أفضل الطرق لإنفاذها، ولعل الرئيس “هاري ترومان” كان أكثر من عبر عن ذلك بمنتهى الوضوح في مذكراته، عندما قال: أريد أن أوضح أن رئيس الولايات المتحدة، وليس وزارة الخارجية، هو المسؤول عن صنع السياسة الخارجية.
ولكن هذه اللوبيات تدرك أيضاً أنها تحتاج لدعم الكونغرس بمجلسيه، نواب وشيوخ، خاصةً لجنة العلاقات الخارجية في كل منهما، بسبب نفوذهما الكبير في تمرير أو تعطيل الكثير من مشاريع القرارات التي قد تحتاجها الإدارة لتنفيذ السياسة الخارجية للرئيس، وبما أن مناصب السلطة التشريعية تكون بالانتخاب، لا بالتعيين، فإن اللوبيات تكون أكثر قدرةً على التأثير في توجهاتها، بينما يضعف هذا التأثير نسبياً في وزارة الخارجية، وربما يتلاشى في وكالة الاستخبارات المركزية، إلى الحد الذي يُطلقُ فيه أحياناً على بعض كبار الموظفين والمحللين فيهما وصف: The Arabists (المستعربون)، والذي جاء صراحةً في مقالة الصحفي الأميركي الشهير “جوزيف كرافت”في صحيفة “نيويورك تايمز” بعنوان:“Those Arabists in the State Department”هؤلاء المستعربون في وزارة الخارجية”، والتي أثارت وقتها جدلاً كبيراً.
البروفيسور والكاتب الأميركي “هيو ويلفورد” مدرس مادة التاريخ في جامعات ولاية كاليفورنيا ذهب لأبعد من ذلك في كتابه الشهير: America’s Great Game:The CIA’s Secret Arabists and the Shaping of the Modern Middle East، “لعبة أميركا العظيمة، مستعربوا السي آي إيه السريون وتشكيل الشرق الأوسط الحديث”، والذي تحدث فيه باستطراد عن تلك المجموعه المتميزة من مسؤولي السي آي إيه الشباب، والذين كانت لهم أدوار هامة في قضايا الشرق الأوسط، أمثال “كيم و آرشي روزفلت” حفيدي الرئيس “روزفلت”، “مايلز كوبلاند”، “بيل إيدي”، و “ويبور كرين إيفلاند” وغيرهم، ممن وصفهم بأنهم: خريجي جامعات مرموقة، درسوا التاريخ الحديث للشرق الأوسط، ومن ثم تابعوا قضاياه عندما عملوا لدى وكالة الإستخبارات المركزية. كل ذلك في فترة مهمة جداً من تاريخ المنطقة، ساهمت في تشكلها بصورتها الحالية، تزامناً مع دخول الولايات المتحدة لاعباً أولاً ومطلقاً فيها.
رغم ذلك فإن المحصلة النهائية كانت ومازالت وربما ستبقى لزمن طويل تميل وبشدة لصالح اللوبيات الداعمة لإسرائيل، على أن هذا الإقرار المُسْتَحَق يجب ألا يكون سبباً أو مبرراً للتخلي عن قراءة دقيقة وعميقة للمواقف الأميركية اتجاه المستجدات الكبرى في المنطقة، بمافيها المتعلقة بإسرائيل، كلاً منها على حدة، وبما يلحظ السياقات الزمنية والسياسية التي رافقتها أو أدت إليها، حتى وإن كانت لاتخرج عن السياق التاريخي العام لهذا الانحياز، ينطبق هذا الأمر بشدة على الموقف الأميركي مما يجري في غزة منذ عملية حماس الأخيرة فيها، خاصةً وأنها أتت في سياق غير مسبوق من تدهور العلاقة بين “نتنياهو” والرئيس “بايدن” شخصياً.
هذا التدهور عبرت عنه رسالة “بايدن” الشهيرة إلى الصحفي الشهير “توماس فريدمان” والتي نشرها الأخير على صفحات “نيويورك تايمز”، وحملت انتقادات مهمة لنتنياهو، التقطها ببراعه محرر الشؤون الأميركية والدولية بصحيفة “هاآرتس” الإسرائيلية “آلون بن كاس” وتحدث عنها بمقال مطول نشرته “هاآرتس” بتاريخ 14 فبراير/شباط الفائت، الأمر الذي كنت قد تحدثت عنه بالتفصيل في مقالة سابقة في موقع “وايت هاوس” بعنوان: “بن سلمان ونتنياهو، ودعوة لتانغو بإيقاع 2030”.
صحيحٌ أن انتقادات “بايدن” لـ “نتنياهو” لا علاقة لها بقضية الصراع العربي الإسرائيلي، ولاتتعرض بأي شكل لقضايا تتعلق بالفلسطينيين، بل إنها لاتمس أي من الشؤون السياسية في المنطقة برمتها، فقد كانت محصورة في قضية اسرائيلية داخلية محددة، ألا وهي حزمة التعديلات التي دفع بها “نتنياهو” لإقرارها والتي تسعى إلى الحد من صلاحيات المؤسسة القضائية في إسرائيل لصالح المؤسسة التنفيذية ممثلةً بالحكومة، الأمر الذي رأى فيه “بايدن” تقويضاً حقيقياً (للديمقراطية الإسرائيلية) التي يرى أنها تقوم كالأميركية على مبدأ هام ورئيسي يتمثل في الفصل التام بين السلطات الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية.
هذا التوصيف للخلاف رغم دقته إلا أنه يعبر عما يطفو على السطح فقط، ولكن الأهم والأكثر عمقاً منه هو أن “بايدن” السياسي المتمرس والحليف التاريخي لإسرائيل رأى أن هذا (الإنقلاب على الديموقراطية الإسرائيلية) من طرف “نتنياهو” ماهو في الحقيقة – بالإضافة لكل سوءاته- سوى تعبير صريح ودقيق عن حالة مجابهة حادة بين اليمين الديني المتطرف، الداعم ربما الوحيد لخطوة “نتنياهو” في طرف، والفضاء السياسي الإسرائيلي كاملاً، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين (السياسي وليس الديني) في الطرف الآخر، الأمر الذي يدرك “بايدن” وقطاعات واسعة من الأميركيين والإسرائليين أنفسهم مدى خطورته على “إسرائيل” الكيان، وأن التناقض الرهيب الذي تنطوي عليه فكرة الدولة فيها بين مفهومها الديني وبنيتها العلمانية، هو في الحقيقة الخطر الحقيقي الذي يهدد وجود “إسرائيل” في المدى الطويل، ربما أكثر من كل محيطها، من طهران إلى الدارالبيضاء.
لعل ماساهم في الفجوة بين الطرفين هو إدراك “بايدن” العميق، وهو الرئيس المزمن للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ، للسياق السياسي والزمني للتعديلات التي يدفع بها “نتنياهو”، فهي تأتي في ظل حالة ارتهان كامل منه لصالح اليمين الديني المتطرف، الذي عرف كيف يبتزّ عدم قدرته على تشكيل حكومة من دونه، وبالمقابل الإذعان لأجندته الرافضة لأي مسار سياسي حقيقي، بل والمضي بالتشدد مع الفلسطينيين لأبعد الحدود، وترسيخ كل الظروف المأساوية التي يعيشونها، أي باختصار شديد دعم العديد من الظروف التي قادت لانفجار 7 أكتوبر/تشرين أول في غزة.
قد أختلف وغيري بالمطلق مع فكر حماس، وقد يكون لنا تحفظات شديدة على نهجها العسكري والسياسي، خصوصاً لجهة مواكبتها لسياسات وتوقيتات طهران، ولكن هذا ليس سبباً كافياً أو مقنعاً لغض النظر عن مسؤولية اليمين الديني الإسرائيلي المتطرف في خلق الظروف التي قادت إلى 7 أكتوبر، وبالتالي مسؤوليته الجسيمة في المخاطرة بأمن إسرائيل نفسها من خلال إصراره على الظروف المأساوية الغير إنسانية التي يعيشها الفلسطينيون في غزة، لا أستثني منهم خصوم حماس قبل أنصارها، ومن هنا فإن تحفظات “بايدن” المبكرة جداً على نهج حكومة “نتنياهو” المنقادة لأجندة اليمين الديني، والتي لم تكن تعديلاته القضائية التي سعى لإقرارها سوى تعبيراً مركزاً عن هذا الإنقياد، في مكانها تماماً، ولذلك فقد حظيت هذه التحفظات بدعم فئات واسعه من الإسرائيليين، وما كان انفجار 7 أكتوبر سوى دليلاً على صوابية تخوفات “بايدن” قبل تحفظاته، ومن هنا فمن الواقعية تماماً القول بأن “بايدن” بنظرته (العميقة) كان أكثر حرصاً على أمن إسرائيل من “بنيامين نتنياهو”، وأن المتابع الدقيق لمسيرة “نتنياهو” يدرك تماماً حجم التفريط الأمني الذي تسببت به سياساته لصالح طموحه الشخصي، الأمر الذي أكده تراجعه خلال ساعات عن تغريدة وصف فيها ما جرى في غزة بالفشل الاستخباري، ليعود ويؤكد أن الأجهزة الإستخباراتية كلها أدت مهامها كاملةً، ويقدم اعتذاراً علنياً لها، في إثبات لا اجتهاد حوله، لما كنت قد أكدته في مقاله سابقة، بأن الفشل كان سياسياً بامتياز، ولو كان الثمن الذي اقتضاه أمنياً صرفاً.
هذا الثمن المرتفع لعملية حماس، والذي دفعته إسرائيل برمتها، خصوم اليمين الديني المتطرف قبل مناصريه، لن يسع “نتنياهو” حياله، وبطريقة تفكير مندوب المبيعات التي لايريد الخروج منها أبداً، إلا أن يقدم لعموم الإسرائيليين مايعتقد أنه يشكل عائداً أمنياً مرتفعاً، يتمثل في تهجير سكان قطاع غزة وتحويل جغرافيته لمنطقة أمنية عازلة، الأمر الذي لن يكون في الواقع وبغض النظر عن إمكانيات حصوله، سوى انتقالاً للمنطقة برمتها، ولإسرائيل نفسها، من حالة المشكلة إلى حالة الكارثة، خصوصاً وأن الإدارة الأميركية الحالية حتى ولو افترضنا جدلاً أنها راغبة، فهي قطعاً غير قادرة على التسويق حتى أمريكياً لعملية تهجير بحجم التي يطمح لها نتنياهو.
السؤال المحق هنا هو: ألا يدرك “نتنياهو” ذلك؟ والجواب هو أن الأمر بالنسبة لنتنياهو مفهوم ومحسوب تماماً، فهو يدرك أنه في اللحظة التي ستتوقف فيها عمليته العسكرية فإن المجتمع الإسرائيلي لن يتردد لحظة واحدة في محاسبته ليس سياسياً فقط، بل ربما جنائياً وقضائياً، على مسؤوليته الواضحة والشخصية والصريحة، في كل ماحصل، ومن هنا كانت محاولاته ” الحثيثة منذ اللحظة الأولى لتحويل الأمر برمته إلى مواجهة إقليمية واسعة وكبرى، قد تشكل حبل نجاة سياسي له، الأمر الذي عارضته الإدارة الأميركية بشدة وحزم ومن اللحظة الأولى، ساعدها في ذلك حالة (النضوج) السياسي المفاجئ التي اعترت مواقف إيران وكل أدواتها الإقليمية، اللهم ماخلا بعض المناوشات الحوثية التي ربما كانت ضرورية لرفع سقف حماس التفاوضي مع مدير الموساد في الدوحة، برعاية أميركية مباشرة تمثلت في تواجد مدير السي آي إيه “نيكولاس بيرنز” هناك بنفس التوقيت.
عندما أدرك “نتنياهو” فشله الذريع في جر الولايات المتحدة وإيران وكافة أدواتها إلى حالة الحرب الإقليمية التي كان يتمناها لإطالة عمره السياسي بغض النظر عن حقيقة أنها لن تجعل إسرائيل أكثر أمناً، بل ربما العكس تماماً، أصبح يلهث وراء أي شيء قمين بأن يدخل المنطقة برمتها بمافيها إسرائيل في دائرة مفرغة من العنف والعنف المضاد، بما يتسق تماماً مع نهجه السياسي المريع الذي ساهم في خلق ظروف 7 أكتوبر، المهم عنده بكل بساطة هو ألا تتوقف عجلة العنف، لأنه يعلم تماماً أن توقفها يعني بداية مرحلة حرجة جداً ستعصف به، بيد مواطنيه هذه المرة، لا بيد حماس.
إن أي نظرة أو تحليل أو تقييم للموقف الأميركي مما يجري في غزة بعيداً عن هذا السياق الحقيقي والواقعي للعلاقة بين “نتنياهو” والإدارة الأميركية سيكون أمراً مخالفاً للحقيقة، وفي الوقت الذي قد يلبي فيه حاجات إنشائية وعاطفية عند أصحابه، إلا أنه لن يساهم في الوصول لصورة واقعية لمجرى الأمور، ناهيك عن أنه لن يقدم شيئاً لإنهاء المأساة التي يدفع المدنيون الفلسطينيون اليوم أثمانها المؤلمة.
لايحتاج المتابع إلى أدلة يثبت بها انحياز الولايات المتحدة المطلق لصالح إسرائيل، فهذه حقيقة لاتحتاج لتأكيد، ولكن القارئ العربي بحاجة ماسة لقراءة واقعية للموقف بكل تفصيلاته المهمة، بعيداً عن التنميط الذي اعتدنا عليه، والأهم طريقة تفكير مختلفة، حتى ولو كانت في “المنطقة المحرمة” عند الكثيرين..!!
متفقون بالتحليل اخ نشمي عربي…
واود اضافة تعقيب شمن السياق ان طوفان الاقصى اعادت القضية الفلسطينية للمربع الاول عند امريكا واسرائيل ذاتها والعالم الى المربع الاول. قضية شعب وارض وضرورة التقدم باتجاه حل الدولتين جديا…
كما اثر ويؤثر طوفان الاقصى على مدى تمسك الصهاينة في اسرائيل بهذه الدولة ومغادرة الكثير منهم اسرائيل حفاظا على سلامتهم…
شكراً لمرورك وتعليقك أستاذ أحمد.
نعم وبكل تأكيد فما بعد 7 أكتوبر لن يكون كما قبله، وأنا متفق مع حضرتك بأن هناك استحقاقات لابد منها تطال الجميع، لعل أهمها على الإطلاق سيكون عند المواطنين الإسرائيليين أنفسهم، وطريقة تفكيرهم، وهذه أهم بكثير من المواقف الحكومية والحزبية.
كل الشكر والتقدير لكم.