عندما يدفع نتنياهو فواتير أوباما
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – وايتهاوس
مقال الرأي بقلم نشمي عربي
في عام 2008، وخلال “المنتدى المدني للرئاسة” تحدث المرشح الديمقراطي (وقتها) “باراك أوباما” عن فترة الدراسة الثانوية في حياته وتجربة الكحول والمخدرات، ووصفها بأنها ((أكبر فشل أخلاقي))، وإن كان بررها لاحقاً بقوله أنها ((كانت لمحاولة نسيان الأسئلة التي تجول بخاطري بخصوص الهوية)).
أحترم في “أوباما” شفافيته في حديثه عن مشكلة الهوية، والتي يبدو أنها كانت طاغية لديه، وعبَّرَ عنها بوضوح عندما قال: ((إن والدي لم يبدو أبداً كالناس من حولي، حيث أنه كان شديد السواد، ووالدتي بيضاء كالحليب)).
ولكن ماعلاقة هذا بما يحدث في غزة اليوم؟
يصل محامي الحقوق المدنية إلى واشنطن كأول رئيس أسود للولايات المتحدة الأميركية، الأمر الذي أعتقد أنه خلق لديه التزاماً عميقاً بأن يُحدِثَ فرقاً حقيقياً في سياسات بلاده، الداخلية والخارجية، ولعل واقعيته أقنعته بأن يركز على قضية أساسية واحدة في كل منهما، يبني عليها إرثه الرئاسي، فاختار موضوع إصلاح نظام الضمان الصحي للأمريكيين، وإيجاد مخرج للأزمة المستعصية مع إيران حول طموحها النووي.
شَكَّلَ الطموح النووي الإيراني مشكلة كبرى للولايات المتحدة كما لإسرائيل، لأنه يخل بمعادلات توازن في منطقة مشتعلة دوماً، ومع قدوم “أوباما” كانت طهران تئن فعلاً جراء سلسلة عقوبات مؤلمة فرضها سلفه الجمهوري “جورج بوش” الإبن، الذي لم تحمل إدارته يوماً وداً لإيران، خصوصاً في ظل النفوذ الهائل “للمحافظين الجدد” ممثلين بنائب الرئيس القوي “ديك تشيني” وفريقه النافذ.
خلافاً لكثير من الخيالات المتداولة فأنا لا أعتقد للحظة واحدة أن “أوباما” كان دوماً منحازاً لإيران، بل أرى أنه كان منحازاً لمصالح بلاده، كما اجتهد هو في تحديدها، ولمصلحته هو في تدعيم إرثه الرئاسي، وأن اجتهاداته قامت على أن الحل الواقعي الوحيد لوضع حد للطموحات النووية الإيرانية يقوم على مبدأ الوصول لاتفاق بين إيران والغرب، يسمح لإيران بالحصول على التكنولوجيا النووية السلمية، وللمجتمع الدولي ممثلاً بالغرب بفرض رقابة صارمة على مستويات التخصيب النووي الإيراني، وبالمقابل تُرفَع العديد من العقوبات المالية والإقتصادية التي أرهقت فعلاً نظام الملالي.
قد تكون الإتفاقية النووية مع إيران مليئة بالعيوب والثغرات، ولكنني أعتقد جازماً أن المشكلة الحقيقية لم تكن في الإتفاقية نفسها، وإنما في التنازلات الكارثية التي قدمتها إدارة “أوباما” لطهران لتسهيل الوصول لهذه الإتفاقية، ومن ثم المحافظة عليها، الأمر الذي اقتضى منها أن تغض الطرف عن تمدد طهران الإقليمي وسيطرتها على القرار السياسي في أربعة عواصم عربيه مهمه، (بغداد، دمشق، بيروت، وصنعاء)، ناهيك عن أن الإفراج عن أرصدة مالية إيرانية ضخمه، ورفع العقوبات الإقتصادية، قد سهلَّا هذا التمدد وجعلاه ممكناً، خاصةً وأن الإطباق على القرار السياسي والأمني في دمشق وبيروت قد عزز من إمكانية تقديم دعم لوجستي وازن ومهم للإسلام السياسي الفلسطيني ممثلاً في حركتي حماس والجهاد، اللتان تعانيان أصلاً من تضييق مالي عربي صارم، وعلى استعداد للتحالف مع الشيطان في سبيل الحصول على دعم مالي ولوجستي واستخباري يضمن لهم دورهم في الساحتين الفلسطينية والعربية.
في التحليل السياسي لابد من الإبتعاد عن العواطف، وبناء عليه فإنني لاأستطيع إلا أن أبدي إعجابي الشديد بدهاء وصبر القادة الإيرانيين، الذين لم يضيرهم أبداً أن يكونوا طرفاً أساسياً في حالة تكاذب دولي كبرى قادتها إدارتي أوباما الأولى والثانية، وبمشاركة أوروبية فاعلة، تعود للحياة مع إدارة بايدن، بعد أن قطعتها سنوات ترمب الأربع، تقوم على مبدأ التفاوض إلى مالانهاية حول هواجس الدول الكبرى من الطموح النووي الإيراني، مقابل التنازل وإغماض العيون عن حقائق التمدد الإقليمي الإيراني الواقع فعلاً، ويترسخ على الأرض يوماً بعد يوم، ولايمكن النظر إلى المواجهة الحاليه في غزة بين حماس وإسرائيل في معزلٍ عنه.
إسرائيل ممثلةً بنتنياهو لم تكن طرفاً في حالة التكاذب الدولي هذه، بل حجر الزاوية فيها، فنتنياهو المثقل بالمتاعب السياسية والقانونية، والذي يُسَوِّق نفسه دوماً للناخب الإسرائيلي على أنه أشرس من يقف في وجه الطموحات النووية الإيرانية، وجد أن حالة (المساكنة) هذه مع التمدد الإقليمي الإيراني، في ظل التفاوض إلى الأبد حول الطموح النووي، ستخدم بقاؤه في منصب لايستطيع أن يتصور نفسه للحظة خارجه، لا أَصْدَقَ ولا أوفى من شريكٍ له في دعم هذه الحالة أكثر من حزب الله اللبناني، الذي وإن خرج (توازن الكذب) معه، والمصطلح عليه ب (توازن الرعب) عن سياقاته، فإن (حكمة) الطرفين تتغلب في النهاية، وتعود الأمور لمجرياتها، وحالة ال (business as usual )، عادةً بعد عمليات جراحية محدودة، وتقليم أظافر، تقوم بها إسرائيل، مستهدفةً ممرات الدعم والإسناد السورية للحزب، مسرحها غالباً الأجواء والأراضي السورية.
يستطيع “بنيامين نتانياهو” دون شك أن يقود سياسة بلاده بطريقة (مندوب المبيعات) التي أجادها خلال سنين عمله في الولايات المتحدة، ولكنني أشك جداً في فاعلية هذا الدور بضمان أمنها وسلامتها، وهنا تحديداً يتميز نتنياهو عن قادة إسرائيل التاريخيين الذين وصلوا لرئاسة حكوماتها، ففي الوقت الذي ركب فيه الجميع عربة السياسة الداخلية والحسابات الإنتخابية، إلا أن قضيتي أمن وسلامة إسرائيل كانتا دوماً في المقعد الأمامي، مع بنيامين نتنياهو الحسابات السياسية الداخلية والانتخابية احتلتا كل المقاعد، حتى على حساب أمن وسلامة إسرائيل الاستراتيجيين، ولو أنه يعرف كيف يُجَّمِّل صورته من خلال تبنيه لعمليات أمنية مبالغ في شدتها، تنجح عادةً بتحقيق أهداف آنِّية ضيقه، على حساب رؤية سياسية استراتيجة تضمن أمن وسلامة بلده.
كافة السياقات السياسية التي أتت بها عملية حماس تشير إلى مستفيدَين وحيدَين،
فلاديمير بوتين وملالي طهران،
ليس مصادفةً أبداً أنهما كانا ولايزالان مأزومَين،
الأول بسبب وصول مغامرته الأوكرانية إلى حائط مسدود، فالغرب لن يسمح له على الإطلاق بجني أي مكسب سياسي من أي انتصار عسكري، بالكاد نراه.
أما نظام الملالي فهو بحكم قدرته الفائقة في استشعاره الجيوسياسي يدرك أن هناك وضعاً جديداً قيد الولادة في المنطقة مع امتدادات دولية، يقوم على الإقتصاد كنواة لحل المشاكل السياسية، لايستطيع بحكم طبيعة تركيبته أن يكون جزءاً منه، ولعل أكثر ما ساءه في الأمر أن غريمه التركي عرف بدهاء شديد كيف يحجز لنفسه مكاناً فيه، في نفس الوقت الذي قد يجد نفسه مضطراً لتبني بعض (أدبيات) البروباغاندا التي تُمتِع طهران وبعض المستمعين في المنطقة.
لايحتاج المرء أن يكون خبيراً عسكرياً ليرى بصمة وتوقيع (الحرس الثوري الإيراني) في عملية حماس، التي أمَّن لها الدعم اللوجستي الإيراني القدرة والملاءة للقيام بها، والحركة بدورها وعلى لسان العديد من مسؤوليها لم تنفِ ذلك بل أطنبت في توجيه عبارات الشكر والثناء لطهران و (محور المقاومة).
نتنياهو في خضوعه لإملاءات اليمين الديني المتطرف الذي لايقبل انخراط حكومته بأي جهد حقيقي من أجل سلام فعلي يحقق لإسرائيل أمنها وللفلسطينيين أبسط الحقوق المشروعه، ساهم في الوصول لحالة الانسداد السياسي والإنساني التي قادت للحاله القائمه اليوم.
كل القوى الدولية والإقليمية التي أغمضت العيون عن تمدد طهران الإقليمي في ظل تفاوض سرمدي معها حول طموحاتها النووية هم شركاء في الورطة التي يعيشها العالم اليوم في غزة وقد تتمدد لتشمل الإقليم.
لا أتفق مع من يتحدثون عن (فشل استخباري) في الجانب الإسرائيلي، بل هو فشل سياسي مريع انزلقت إليه حكومات نتنياهو في مشاركتها بتثبت حالة القبول بالتمدد الإقليمي لطهران في ظل التفاوض النووي معها، وفي خضوعها لإملاءات اليمين الديني المتطرف في إسرائيل بعدم السماح بإطلاق أي جهود حقيقية لعملية سلام فعليه مع محيطها.
نتنياهو، الذي وصفته عدة مصادر صحفية غربية بالتقتير الشديد، لحد أن بعضها سَرّبَ أنه وزوجته يأخذون معهم في أغلب زياراتهم لواشنطن حقائب ملأى بالغسيل الوسخ، ليتم غسلها مجاناً في بيوت الضيافة الأميركية، يضطر اليوم لتسديد فواتير “باراك أوباما” و “روبيرت موللي” ونظرية تقديم التنازلات لطهران في سبيل اتفاقية نووية معها، لا تقِ من برد، ولا تسمن من جوع.
الرئيس “بايدن” الذي يتحضر لمعركة انتخابات رئاسية قادمة، لديه خيار الآن، هل ستستمر واشنطن في تقديم خدمتها المجانية لغسيل نتنياهو الوسخ؟ أم أنها ستضغط فعلياً من أجل عملية سلام حقيقية تضمن أمن وسلامة المدنيين الأبرياء من الطرفين؟ خصوصاً وأن حراكاً إقليمياً عربياً قد تكون الرياض محوره، سوف يشكل عامل دفع اقتصادي قوي لهذه العملية، الأمر الذي أعتقد أنه أقلق طهران بشدة، ودفعها لاستخدام أوراقها الإقليمية في قلب الطاولة على الجميع.
على ذكر الغسيل الوسخ، أتوقع نشر الكثير منه خلال الشهور والسنوات القادمة حول ماحدث، خصوصاً بين المؤسستين الإستخبارية والسياسية في إسرائيل.