زمن الطوائف السوري
الاستماع للمقال صوتياً
|
واشنطن – وايتهاوس
مقال الرأي بقلم نشمي عربي
1 من 2
أعترف أنني خسرت العديد من الصداقات، بعضها مع أشخاص أقدرهم، وأعلم أنهم يقدرونني، لأنني كنت أصر دوماً على أن نظام الحكم في سوريا ليس طائفياً، ولو أن الطائفية كانت إحدى أدواته المهمة.
يكون نظام الحكم طائفياً فعلاً، عندما يتبنى طائفة معينة، وَيُسَخِّر كل مقدرات البلد لتحقيق مصالحها (الحقيقية)، على حساب غيرها من باقي مكونات الشعب. ويكون غير ذلك عندما (يَرْكَب) هذه الطائفة، وَيُسَخِّر أبناءها ليكونوا حَرَسَاً وَعَسَسَاً له، ويده التي يبطش بها ضد كل من يقف في وجه تسلطه وجبروته، وهي قطعاً ليست استثناءً في ذلك، بل يجري على أبنائها مايجري على غيرهم من السوريين إذا هم فكروا في معارضته، بل وبشكل يكون غالباً أكثر ردعاً وقسوةً.
لم أنظر يوماً لعلويي سورية على أنهم طائفة، بالمعنى المذهبي للكلمة، هم مكون إجتماعي سوري مثلهم مثل كل باقي المكونات السورية، بل إن الدين لايحتل عادةً موقعاً مركزياً لدى كثيرين منهم، شأنهم في ذلك شأن العديد من سكان الأرياف، دون أن يجعلهم ذلك أقل إيماناً من باقي السوريين، ولعله باستثناء كتاب الشيخ “عبد الرحمن الخير” بعنوان “عقيدتنا وواقعنا نحن المسلمين الجعفريين العلويين” الحديث النشر نسبياً، والذي أكاد أجزم أن الغلبة الغالبة من علويي سورية لم تسمع به، أو على الأقل لم تقرأه، فقلما نقف على مراجع معاصرة تتحدث بوضوح عن إطار عقيدي ومذهبي يجمعهم، ذلك لم يمنع المخيال السوري الثر والغني (دوماً) من أن يتحدث عن كتب ونواميس يتبعها العلويون لاوجود حقيقي لها إلا في خيالات المروجين لها.
ما لايمكن إنكاره أوحتى تجاهله هو أنه مع صعود الأسد الأب، وقبله صلاح جديد، كان هناك صعود هائل في أعداد الضباط وصف الضباط وحتى الجنود العلويين في الجيش ومن ثم في أجهزة الأمن، والأهم من ذلك، في طبيعة المواقع التي تسلموها ومدى حساسيتها، ولو أن بداية هذا الصعود كانت مبكرة وجاءت تحديداً مع أكرم الحوراني، الذي كان متصالحاً تماماً مع نفسه في انحيازه الواضح والعلني للكادحين، وخصوصاً الفلاحين، ودَفَعَ باتجاه دخولهم بكثافة للجيش الذي سعى الحوراني دوماً من أجل أن يكون له دور محوري في الحياة السياسية السورية، لم يكتفِ من خلاله الجيش بإزاحة الطبقة السياسية السورية والحلول مكانها، بل وانتهى الأمر معه بإلغاء واجتثاث كل مظاهر الحياة السياسية السورية بالمطلق.
عند “أكرم الحوراني” كان الأمر يتعلق بإخلاص حقيقي للطبقة الكادحة، وافتئات شديد على الطبقة السياسية السورية برمتها، ولكن دون بعد طائفي، لايغير في ذلك أن فلاحي ريف حماة، وأغلبهم من علوييها، كانوا معنيين أكثر من غيرهم بالأمر، على الأقل بحكم التوزع الديموغرافي الطبيعي.
مع “صلاح جديد” سيكون الأمر أكثر تعقيداً، وربما أكثر تناقضاً، أَقَلَّهُ بحكم طبيعة “جديد” الأعقد تركيبةً، والأكثر انطِواءً، فجديد برغم عمقه الفكري والنفسي، لم تكن له الكاريزما الشخصية لصنوه “محمد عمران” الذي كان أكثر انفتاحاً، وأَقَلَّ دهاءً، مما رشحه بقوة ليكون أول الخاسرين، والخارجين، من (لعبة الكراسي الموسيقية)، التي أدارها الرفاق، بلا كللٍ ولا مَلَل.
سيكون أمراً طبيعياً ومنطقياً أن ينبري العديد من المؤمنين بالرفيق “أبو أسامه” ليؤكدوا على أن الرجل ليس طائفياً، وستكون مناقبيتهم العالية ونظافة كفّهم المشهودة، كما مناقبية “جديد” ونظافة كفه، اللتان لايمكن المساس بهما، أسباباً أكثر من وجيهة لأقتنع بوجهة نظرهم.
كما سيكون أمراً طبيعياً ومنطقياً أيضاً، أن ينبري العديد ممن رافقوا وعايشوا أحداث تلك الفترة من التاريخ السوري المعاصر، مدنيين وعسكريين، ليؤكدوا على أن “صلاح جديد” كانت له أيضاً حساباته الدقيقة، ومن ضمنها الطائفية، والتي ألقت دوماً بظلالها على قرارات التعيينات والترفيعات والتسريحات في الجيش، سواء من خلال منصب (مدير إدارة شؤون الضباط) أو (نائب رئيس الأركان) اللذان شغلهما لفترات مهمة، وسأكون مضطراً أيضاً للاقتناع بوجهة نظرهم، خصوصاً أولئك الذين كانوا في عداد من (حصدتهم) تعيينات وتسريحات الرجل.
لا أستطيع في الحقيقة أن أتفهم كيف استطاع “جديد” أن يزاوج ويلائم بين التزامه البعثي الصارم وحساباته الطائفية الضيقة! لعله استخدم نفس الوصفة السحرية التي زاوجت أيضاً بين إيمانه القومي وتطلعه الأممي.
سواء ثبتت التهمة الطائفيه على “صلاح جديد” أو لم تثبت، فإن أمراً مهماً سيكون ثابتاً دوماً، على الأقل في قناعتي الشخصية، وهو أن (تكتيكاته) الطائفية لم تكن يوماً لحسابه الشخصي، ولا كانت في المحصلة لحساب طائفته، أغلب ظني أن الرجل في شطحاته الماوية حيناً، والماركسية طوراً، كان مستعداً للقيام بأي شيء من أجل تثبيت سلطة (البروليتاريا) كما رآها هو، وكما آمَنَ دوماً بأحقيتها في الإطباق على السلطة، وبشكل مطلق.
الأمر الآخر الذي لايمكن إنكاره على “صلاح جديد” حتى ممن لايتفقون مع فكره ونهجه، هو أنه بقي دوماً وَفِيَّاً لقناعاته، ولم يتنازل عنها، ودفع ماتبقى من عمره ثمناً لهذا الإلتزام.
مع الأسد الأب سيكون الأمر مختلفاً تماماً، وأسهل للفهم، ولن يحتاج لكثير من الدراسة والتحليل، فقد اختصر سورية كلها، بشراً وشجراً وحجراً، في شخصه هو فقط، ولم تكن طائفته بمعزل عن ذلك، وإن كان دور أبنائها سيتعاظم في كل مناحي الحياة السورية لتعاظم دورهم في تثبيت دعائم حكمه، وضمن حساباته الدقيقة ومعادلاته المعقدة، التي وإن اختلفت مدخلاتها فلن يكون لها سوى ناتج واحد دوماً، اختصرته البروباغاندا الرسمية السورية في عبارة واضحة وصريحة، وعلى رؤوس الأشهاد:
((قائدنا للأبد، الأمين حافظ الأسد))!
استفاد الأسد الأب من كافة أخطاء صلاح جديد، فهو في الوقت الذي زاد فيه من اعتماده على ضباط مقربون منه، كان طبيعياً أن يكون فيهم العديد من أبناء طائفته، مع عدد لا يستهان به أيضاً من أبناء الطوائف الأخرى، إلا أنه دخل في تفاهمات لايستهان بها مع الطبقة التجارية السنية في المدن الكبرى، التي لم تحمل أي ود لنظام صلاح جديد وكل مايمثله، ولعل تجار سوق الحميدية وشارع الحريقة كانوا متصالحين تماماً مع (مصالحهم) حين رفعوا شعارات التأييد للأسد، والتي اختصروها براية واحدة تقول:
((طلبنا من الله المدد، فأرسل لنا حافظ الأسد))!
مع ازدياد التحديات التي واجهها الأسد الأب في سنين حكمه الطويلة، ازداد اعتماده على أبناء طائفته، خصوصاً في التشكيلات العسكرية النوعية وأجهزة الأمن، ولكنه في نفس الوقت لم يسمح بأي تنمية مستدامة في الأرياف العلوية، تضمن مستوى حياة لائق لأبنائها، وكأن قدر السواد الأعظم منهم هو أن يكونوا جنوداً في مزرعة الأسد، وماخلا عدد قليل من قصور وفلل ومزارع ضباطه الكبار فقد بقي الريف العلوي يرزح تحت خط الفقر ويفتقد للعديد من مقومات الحياة الكريمة، في نفس الوقت الذي لم يسمح به على الإطلاق بوجود أي زعامة دينية أو عشائرية أو طائفية علوية، بل على العكس تماماً فقد عمد إلى التضييق الشديد على كل ما من شأنه أن يؤدي إلى ذلك، وكل مايشاع عن مجالس تتحكم بالملِّة أو الطائفة لايتعدى أن يكون تخرصات لاأساس واقعي لها، فقد اختصر الرجل سورية كلها في شخصه، ولن تكون طائفته استثناءً على الإطلاق.
على العكس تماماً فقد نسج نظام الأسد الأب، مباشرةً بشخصه هو، أو من خلال أجهزة أمنه، علاقات مهمه ومتينة جداً مع العديد من وجوه الطبقة الدينية السنِّية، كانت كفيلة بضمان ولاء قطاعات مهمه من المجتمع السوري، خصوصاً في المدن الكبرى.
رغم كل ماسبق، فإنني أزعم أن السياق الزمني لهذه السطور لم يشهد بعد (زمن الطوائف السوري) الحقيقي، الذي سيبدأ بعد رحيل الأسد الأب بسنوات، فكيف انزلقنا إليه؟ وماهي أهم مظاهره؟
هذا سيكون موضوع الجزء 2 المكمّل لهذا المقال.